علم الدين سعيد يوسف شاهين

أحد قادة النسر الأحمر في مدينة رفح،عاش الرفيق علم الدين شاهين في مخيم الصمود والتصدي ، مخيم الشهداء الشابورة ، حث ترعرع هناك بين أزقة المخيم ودرس بمدرسة المخيم، حيث أصبح عضواً في اتحاد لجان الطلبة الثانويين، وكانت مقارعته للاحتلال أينما وجد في مخيم مثلاً يحتذى به، حيث كان شديد البأس، قوي العزيمة ، وسيم الملامح ، استشهد في اشتباك مسلح بمخيم الشابورة وهو يرفع لواء ا لجبهة الشعبية خفاقة في سماء فلسطين. المجد والخلود لشهدائنا الأبرار ما كُتب عنه ( خالد جمعة) بعد أربعين يوماً على استشهاد علم الدين شاهين، كنت في مدينة غزة في اعتصام أمام الصليب الأحمر، فطلب مني المعتصمون من كافة مدن وقرى قطاع غزة الصورة الشهيرة لعلم الدين مع الشهيد أيمن زقوت، فذهبت إلى الأستوديو الذي يملك النيجاتيف وطلبت منه أن يطبع لي مئة صورة خلال ساعة، وحين سألت صاحب الأستوديو عن السعر، نظر إلي بعمق مطولاً وقال: أنا على استعداد أن أطبع لك مئتي صورة مجاناً، بشرط، أريد أن أعرف حكاية هذا الرجل!! نظرتُ إليه باستغراب، لماذا هذا الرجل بالذات؟ فأنت تطبع يومياً صوراً للشهداء، فقال: نعم، ولكني لم أطبع أربعين ألف صورة لأي شهيد من قبل، أكبر رقم طبعته كان ثلاثة آلاف، فلماذا هذا الشاب بالذات تنهال على صوره كل هذه الطلبات؟ أعدّ الرجل القهوة وأغلق باب الأستوديو، وجلس ينصتُ إليَّ باهتمام بالغ فيما الماكنة تخرج الصور ببطء جنائزي. علم الدين شاهين ولد عام 1971، كان طفلاً جميلاً كملاك، ليست مبالغة، لكنه كان يشبه القط، جميل وصعب الإرضاء وتراه في كل مكان. عمل علم في لجان الطلبة التابعة للجبهة الشعبية، في اللجان الشعبية، في لجان المقاومة، في لجنة المرأة، في الشارع، كان فناناً في ضرب الحجارة، في التخطيط، جريء إلى حد الجنون، لم يكن أحد يستطيع الاقتراب من عربات الجيش إلى هذه المسافة، تجده في كل مكان يمكن أن يخطر أو لا يخطر على بال بشر، كان المرجع الأساسي الذي يحسم خبراً تعددت رواياته، لأنه ببساطة كان في كل مكان دائماً. اعتدت وإياه قبل كل عيد أن نأخذ سيارة ونلف على معارفنا الذين لديهم حدائق صغيرة ونجردها من أي نوع من الورد مزروع فيها، ونقضي الليل نعد الأكاليل متبعين الورقة التي ما زلت أحتفظ بها إلى اليوم، كل شهيد باسمه، إكليل، يشبكه علم ببعضه فيما أقوم أنا بتخطيط الإسم، ولم نكن معنيين بانتماءات الشهداء، فلكل شهيد إكليل، وفي اليوم التالي كان الأهالي يتوجهون إلى المقبرة صباح العيد، فيجدون إكليلاً على قبر كل شهيد، وحتى عندما بدأ الجيش يأخذ احتياطاته ويحاصر المقبرة، كانت الأكاليل توجد هناك أيضا وسط دهشة الناس والجيش معاً، أسر لي علم مرة أنه اضطر أن يختبئ في قبر قديم لكي يضع الأكاليل في الليل. في يوم 17 أيلول 1990، الساعة الخامسة والنصف مساء، زارني علم في البيت، كنت أقوم برسم بعض الخرائط المعمارية، كان جميلاً كما لم يكن من قبل، رائحة البارفان تقفز من جلده وشعره المقصوص حديثا وذقنه المحلوقة بعناية تضفي بعداً ملائكياً على وجهه، وكانت معه علبتي روثمان مغلقتين وثالثة يدخن منها، جلس إلى جواري، أمي كانت تحبُّهُ كثيراً، طلبت من أمي أن تعد له الشاي، فقال: لا أحب الشاي، أريد قهوة مرّة، أمي قالت له بالحرف: تكرم عينك يا بطل، وأعدت له فنجان القهوة الذي بقيت ثمالته ساخنة حين خرج من بيتي في السابعة إلا الثلث. سمعنا إطلاق نار كثيف إلى حد الهوس، ومرت سيارة وحدات خاصة برتقالية من نوع فولس فاجن، الشباب أمطروها بالحجارة لكنها لم تتوقف، وعمت البلبلة المخيم. أخذت مع مجموعة من الشباب نبحث عن علم الدين لنعرف حقيقة الخبر، لأن الروايات تعددت ولم نستطع أن نعثر ليلتها على علم ولا على الرواية، قال لي أحد الأصدقاء إنه كان على موعد مع علم لأكل الدجاج المشوي ليلتها لكن علم لم يأت وبقينا نبحث عنه إلى الفجر. بعد سنوات، ألتقي بأحد المطاردين، وأطلب منه بالتفصيل أن يروي لي ما حدث، لأن الموضوع ظل يشغلني طويلاً، فقال ما ملخصه أنهم كانوا خمسة ملثمين من مقاتلي الجبهة الشعبية، قد حاصرهم الجيش لأنهم اختطفوا عميلاً للتحقيق معه، وأنه شخصياً وضع المسدس في فمه ليطلق النار على نفسه إذا اقتربوا لاعتقاله، وفجأة يخرج شخص من شارع فرعي ويحتضن عربة الوحدات الخاصة وهو يصرخ: بيكفي يا ألله، وبالطبع فهم الشباب أن الشارع الذي خرج منه الشاب كان آمناً للهروب، فهرب الخمسة دون أن يصاب أحد منهم بأذى، وبالطبع هذا الشاب كان علم الدين شاهين، الذي عثر في جثته على أربعة عشر رصاصة منها رصاصتان تحملان دائرة النار من مسدس أطلقتا من مسافة أقل من متر واحد في خده وجبهته اليسرى، لقد كان ضابط المخابرات يصرخ بعصبية: إبن الكلب ضيع علينا سنتين شغل... لم نعلم بأن علم قد استشهد إلا في اليوم التالي، حتى عندما أعلنت سوريا في نشرة الخامسة والربع صباحا أن الشهيد اسمه علاء الدين شاهين، قلت في نفسي ليس علم إذن، مع أن قلبي سقط إلى ما تحت الأرض حين سمعت الإسم. تسللت من بيتي في منع التجول، ذهبت إلى بيت علم، كان أخوه الذي شاركني مقاعد الدراسة لسنوات طويلة، يجلس وأمامه علبتي روثمان يدخن منهما، وهما بالمناسبة لم تكونا من نوع سجائره، ففهمت الأمر، وخرجت لأطرق كل باب في المخيم وأقول إن علم الدين شاهين قد استشهد، بعض الناس كانوا يبكون قبل أن يفتحوا الباب. قمت بكل شيء يمكنني القيام به، في الجنازة الوهمية، البوسترات، الصور، كنت كمن أخذتني الصاعقة فلم أبك، الحادثة جرت في السابعة وعشر دقائق، أي نصف ساعة بعد خروجه من البيت، وبعد أيام ذهبت إلى خانيونس فقالت لي أختي: البقية في حياتك، أعرف أنه كان صديقك، وقتها فقط، دخلت إلى غرفة وأغلقت الباب وبدأت بالبكاء ساعتين متواصلتين، حتى نمت. علم كان يملأ الهواء، والسماء، وقد سألته مرة وكان هناك بعض الملثمين من حماس يكتبون شعارات على الجدران: علم، لو جاءت الوحدات الخاصة، ماذا تفعل، قال: أحضن السيارة بذراعي، قالها بالحرف قبل استشهاده بشهر. المجموعة التي نجت، أطلقت على نفسها اسم، مجموعة النسر الأحمر علم الدين شاهين، وقام أطفال المخيم بتأليف الأغاني عن علم، وما زال ذكره في المخيم قائماً إلى الآن، وأجزم أن نساء كثيرات رأيتهن يبكين متأثرات بجماله الرجولي النادر، لم يعرفنه، لكنهن أحسسن بذلك، والصورة الوحيدة التي قمت بتكبيرها وما زالت موجودة في بيتي في رفح هي صورة علم الدين شاهين مع أيمن زقوت الذي استشهد قبله بسبعة شهور، لكن تلك قصة أخرى، وكنا نقول لعلم، قص هذه الصورة، فكان يقول: خليني ألحقو، شو فارقة يعني. بصدق كبير، لو أنني أردت كتابة كل شيء عن علم الدين شاهين لكتبت موسوعة كاملة، لأن كل تفصيلة من تفاصيل حياة علم كانت شيئا مميزا لا يمكن الحياد عنه، بل تجب روايته، حتى قبره لم يكن قبرا عاديا، فقد طارده الاحتلال حتى بعد موته، وكان يرسل عملاءه ليلا ليعبثوا بقبره فيعيد الشباب ترميمه، لأنه كان يهددهم حيا وميتا، بل أن المعزون حين كانوا يأتون إلى بيت العزاء من كل الفصائل الفلسطينية، كانوا يقولون جملة واحدة: لا نعرف كيف نعزيكم في علم!!! ربما ما ميز علم، أنه ذهب إلى الموت ولم يأت الموت إليه، بعد تسعة عشر عاما أتى علم إلى قصيدتي، كتبت له قصيدة [عصفور أزرق] لأعتذر له عن أنني ما زلت حياً. الخامس من كانون ثاني 2011 عصفور أزرق إلى علم الدين شاهين فنجانُ قهوةٍ ينتظرُ فوقَ الطاولةْ، وأنت في مرآةِ النَّهرِ جميلاً ما زلتَ حيثُ لا شيءَ بعدَكَ يُشبِهُك، لا ذلك الهدوءُ النافرُ في كيمياءِ وجهكَ، لا ذلك السحرُ المخمَّرُ في مرورِكَ الأزليِّ بينَ عُشبتين، ولا القطُّ الذي يحرسُ نومَكَ الطويلْ. عشِقَتْكَ الصبايا على المفارقِ كلِّها، وسَّدْنكَ أذرِعَتِهِنَّ في حلمٍ مشتركْ، حملنَكَ على غيم الذاكرةِ كأي طفلٍ لم يُشبِعْ شارعاً من خطوتِهِ الناعمة، وبعدُ، لم يرأفْ بكَ الوجعُ ليتركَ وسامَتَكَ تقاتلُ وحدَها، تعلّقوا بذيلِ الكلماتِ فيكَ كي يضمنوا مكاناً في المكانْ. ألم يَكُنْ حضورُكَ يملأُ الوقتَ حتى آخِرِهِ؟ فأينَ ترَكتَ عينيكَ حينَ عَمِيَ الشارعُ وانفضّت الخيلُ من مشهدِ الكلام؟ هل ما زلتَ عصفوراً أزرقَ يطلعُ صبحُ العالمِ من احتكاكِ جناحيهِ بالريح؟ اتّكأتُ على خفّةِ الحكايةِ، لو لم أشاهِدْ غزالةَ النومِ تخبئُ فِكْرَتَكَ في فرائها القطبيّْ، لقلتُ أنّكَ لم تكُن غيرَ وردةٍ ذبُلتْ لتعطّرَ الرملَ والنوايا، اصطحبتُكَ في ليالٍ لا تُحصى إلى أماكنَ لا تُرى، وما زلتَ مندهِشاً وتوزِّعُ الدهشةَ بلا مقابلٍ على الحواري والخيالاتِ الباقيةْ. حينَ أعطتْكَ الريحُ بَكارَتَها، خَجِلْتَ، فانْتَبَهَ الغيمُ إلى أنّكَ وحدَكَ مَنْ يُغرِقُ العالمَ في الضبابِ حين تستحي من وقاحةِ الريحْ. ما زلتُ معلّقاً على موعدٍ بيننا، أدرِّبُ عينيَّ على النوم وغيابِك الحرّْ، وأمرِّنُ خرائطَ القلبِ على التوازنِ كي أتعلّمَ المشيَ واللغةَ كأيِّ غريبٍ لم يعرفهُ المكان. عليكَ أن تغفرَ لي بكل ما في قلبكَ من حياةْ أنني ما زلتُ حيّاً 13 تموز 2009