متطلبات ما بعد فوز الليكود

حجم الخط

   مكونات البرنامج الوطني الفلسطيني ثلاثة: العودة والدولة وتقرير المصير، ولا يشكل تحقيقها سوى "الحل الوسط": تطبيق قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالصراع. ولئن كان نحو 25 عاماً من التفاوض الثنائي المباشر قد أثبت أن إسرائيل النظام ليست في وارد هذا "الحل الوسط"، فإن نتائج الانتخابات الإسرائيلية، بمعزل عن تركيبة حكومة الاحتلال القادمة، قد أسقطت إلى غير رجعة إمكان أن يسفر التفاوض الثنائي عن إقامة دولة فلسطينية على حدود 67، فما بالك بإمكان تحقيق العودة وتقرير المصير. لماذا؟

   يؤكد فوز نتنياهو، (الشخص والحزب والمعسكر)، أن لسياسة العدوان والتوسع بنية مجتمعية مشبعة بعنصرية تتاخم الفاشية، وأن رفْض حكومات إسرائيل للتسويات السياسية، تعبير عن نظام استيطاني إقصائي يقتضي مواصلة سياسة الحروب والتطهير العرقي المُخطَّط. هذا ناهيك أن التنافس الانتخابي دار أصلاً بين معسكرين، يجمعهما في الجوهر، برنامجاً وممارسة، التمسك بلاءات صهيونية معلنة، هي: لا لحق اللاجئين في العودة، لا للانسحاب إلى حدود 67، لا لوقف الاستيطان وتفكيك الكتل الاستيطانية الكبرى، لا لتقسيم القدس وإلغاء ضمها والتخلي عنها "عاصمة أبدية لإسرائيل"، ولا لرفع الحصار عن قطاع غزة قبل نزع سلاح المقاومة، ولا، (وهنا الأهم)، لإبرام "اتفاق نهائي" لا يضمن الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي". ما يعني أن الناخب الإسرائيلي اختار البرنامج الأكثر تعبيراً  عن بنيته المجتمعية العنصرية، وعن نظامه الإقصائي، وعن غطرسة التشبت بـ"إسرائيل القلعة" المفروضة بالقوة داخل فلسطين والمنطقة العربية وغلافها الإقليمي.

   إذاً لا مفاجأة ولا عجب في نتائج هذه الانتخابات، خاصة أن إسرائيل، نخباً وناخبين، مطمئنة إلى رعاية أميركية وتواطؤ دولي يحولان دون إنهاء شذوذ بقائها دولة مارقة فوق القانون، ومحمية من أي ضغط فعلي يجبرها على قبول "الحل الوسط". هذا ناهيك أن إسرائيل هذه مرتاحة كما لم يحصل من قبل، للقائم، وغير المسبوق، من عجز رسمي عربي بنيوي، زاد طينه بلة، إرهاب تكفيري يفتك بالعرب دولاً وجيوشاً ونسيجاً وطنياً ومجتمعياً، لدرجة أن تصبح قضية "محاربة الإرهاب"، لا القضية الفلسطينية، هي "قضية العرب الأولى"، بل، ولدرجة أن تصبح إيران، لا إسرائيل، هي "عدو العرب الأول". وقبل ما تقدم وفوقه أن الاحتلال الإسرائيلي صار، إلى درجة كبيرة، "احتلالا بلا كلفة"، ارتباطاً بضعف العامل الوطني الفلسطيني والتباساته ومأزقه البنيوي، بفعل استمرار تعاقد التفاوض العبثي، واستفحال الانقسام الداخلي المدمر، كانقسام عمودي طال أمده، ولا تتوافر إرادة سياسية جادة لإنهائه.

   عليه، بعيداً عن التفاصيل، تشكل الحقائق أعلاه جوهر دلالات نتائج الانتخابات الإسرائيلية، ما يضع العرب، والفلسطينيين منهم خصوصاً، أمام محطة لا جديد فيها سوى تجديد التأكيد على أن مواقف إسرائيل النظام والبنية المجتمعية لا تتغير بتبدل ألوان حكوماتها، ولا بتقديم التنازلات المجانية المتسرعة، التي لم تجنِ حتى ضغطاً أميركياً فعلياً، طال انتظاره  لنحو 25 عاماً، لكنه لم يأت، ما قاد إلى تعميق الاحتلال وتعاظم الاستيطان وتصعيد الهجوم السياسي والميداني لتحقيق المزيد من أهداف المشروع الصهيوني، وإلى تآكل البرنامج الوطني واختزاله لدرجة الضغط لقبول مقايضة العودة وتقرير المصير بالدولة، بل ولقبول التفاوض لإقامتها "على أساس حدود 67"، وليس "على كامل حدود 67". أي بلا "القدس الشرقية" ومع بقاء الكتل الاستيطانية الكبرى. بل والضغط لتمرير "حل الدولتين" وفق المقاربة السابقة للدولة الفلسطينية، مقابل "إنهاء الصراع" ووضع حدٍ للمطالب والاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي".   

   أما أن يعلن نتنياهو أن دولة فلسطينية لن تقوم في ولايته كرئيس لحكومة الاحتلال القادمة، فأمر طبيعي، ولا يعني سوى أنه القائد والممثل الأكثر فظاظة لجوهر المشروع الصهيوني: تعظيم مصادرة الأرض والاستيطان والتهويد، بما لا يترك متسعاً للفلسطينيين سوى إقامة "حكم إداري ذاتي"، كصيغة طرحها شامير عام 1989 رداً على صيغة "الحكم الذاتي الإقليمي"، كما بلورها رابين. ثمة فرق بين الصيغتين، إنما في الدرجة. 

   أما سيل الانتقادات الأميركية والأوروبية لفظاظة إعلان نتنياهو، فإنها على أهميتها، لا تتيح الرهان لدرجة تصور أن الإدارة الأميركية ستمارس ضغطاً فعلياً على حكومة نتنياهو يجبرها على إنهاء الاحتلال بمظاهره السياسية والاستيطانية والعسكرية والاقتصادية، وتحديد سقف زمني لإقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة على كامل حدود 67. وهذا ليس حكماً مسبقاً، بل حكم يزكيه أن الإدارة الأميركية وأغلب وأقوى حكومات حلفائها الأوروبيين، ما زالت متمسكة بمقاربة مواصلة التفاوض الثنائي لإقامة دولة فلسطينية "على أساس"، وليس "على كامل" حدود 67، بل ولا تزال ترفض تحديد سقف زمني للتفاوض.

   بذلك يتضح أن الانتقادات الأميركية والأوروبية لنتنياهو، حتى لو بلغت درجة التقريع أحياناً، تستهدف ضمان استمرار تعاقد التفاوض الثنائي المباشر كإستراتيجية أميركية لإدارة الصراع أو حله وفق الشروط الصهيونية. هذه هي حدود الانتقادات الأميركية التي ربما تصل إلى اقتراح توسيع "اللجنة الرباعية" لرعاية المفاوضات، لتشمل دولاً عربية، مصر والأردن تحديداً، وربما غيره من الاقتراحات، إنما بما لا يمس بتحكُّم الولايات المتحدة المنفرد بملف القضية الفلسطينية. ما يعني أن الانتقادات الأميركية لنتنياهو إنما تستهدف منع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من تطوير خطواتها الحذرة والمترددة لتدويل القضية الفلسطينية إلى حدود التنصل من تعاقد "أوسلو" السياسي والتزاماته الأمنية والاقتصادية، وبناء إستراتيجية سياسية فلسطينية جديدة، ما يفضي، تقدم الأمر أو تأخر إلى استعادة خيار المقاومة، كسبيل وحيد للخروج من الأزمة الوطنية، وتوفير شروط إعادة توحيد الشعب الفلسطيني وإعطاب ديناميات تفكيكه إلى تجمعات بأجندات وأهداف وقيادات متباينة متصارعة.

   عليه، لا مناص من الاعتراف بما يكفي من حزم أن هذه هي حدود الانتقادات الأميركية لنتنياهو، وأن الرهان عليها أكثر مما يجب، يعني استمرار الفتك بقدرة الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية على تلبية ولو الحد الأدنى من متطلبات واستحقاقات مرحلة ما بعد الانتخابات الإسرائيلية. بل وتعميق الانقسام الداخلي لدرجة تحويله إلى فصلٍ بين الضفة وقطاع غزة. هذا أمر ليس مستبعداً، بل وارد، وتشي به التصريحات الصادرة عن مركز القرار في حركة "حماس"، بدءاً بالقول:"التفاوض مع إسرائيل ليس محرماً شرعياً على حركة حماس"، مروراً بالقول: "إسرائيل تريد رفع الحصار عن غزة لكن أبو مازن لا يريد"، وصولاً إلى القول: "حركة حماس ليست منغلقة على أي أفكار تطرح عليها بخصوص هدنة مع إسرائيل... وإن هناك أفكاراً طرحتها قنوات دولية على الحركة بشأن تحسين الوضع في قطاع غزة مقابل هدنة مع إسرائيل".

   قصارى القول: إن  تجديد الجري خلف سراب الوعود الأميركية بشأن ما يسمى "حل الدولتين" لن يفضي إلا إلى تأجيل، وزيادة كلفة، اتخاذ قرارات وطنية مصيرية باتت مفروضة سياسياً منذ انتهى السقف الزمني لـ"أوسلو" في أيار 1999. بل وإلى تعميق الأسباب الخارجية والداخلية للأزمة الوطنية الفلسطينية، كأزمة تهدد الشعب الفلسطيني بعمومه والقضية الفلسطينية بمجملها، وليس فلسطينيي الضفة وقطاع غزة، فحسب. ذلك أن سياسة الولايات المتحدة، في الجوهر، ما زالت معادية حتى لأدنى الحقوق الفلسطينية، فيما سياسات الاحتلال الهجومية ستزداد شراسة على كل المستويات، والاستيطان والتهويد منها بالذات، في محطة ما بعد الانتخابات الإسرائيلية، وتشكيل حكومة جديدة بقيادة نتنياهو.