عن الرجال والبنادق

حجم الخط
كان الأديب الشهيد غسان كنفاني يكتب (عن الرجال والبنادق - 1968) وهو يطل على المشهد الفلسطيني بعد هزيمة 1967، وُبعيد انطلاقة التنظيمات الفدائية على اختلاف علاقاتها وألوانها، وقد كثر الحديث عن السلاح والثورة. يبدو أن كنفاني أراد أن يقول شيئاً ما عن تلك العلاقة الملتبسة، بين الإنسان – المقاتل – وبين السلاح – الأداة. لذلك، ربما، ركز في نقده اللاذع، وربما في معظم ما كتب تقريباً، على ثقافة فلسطينية تقليدية ، كانت ترى في البندقية أو المسدس مصدراً للتشبيح وللسلطة الفردية، وتعويضاً عن حالة الخصي السياسي والهزيمة. لذلك، رسم غسان كنفاني صورة أخرى لمقاتل آخر وسلاحاً كان يرى فيه خلاصاً جماعيا لشعب النكبة.... كتب غسان عن الرجال والبنادق ، وفي الإهداء شرع يقول : "هذه تسع لوحات، أردت منها أن أرسم الأفق الذي أشرق فيه الرجال والبنادق والذين - معاً - سيرسمون اللوحة الناقصة في هذه المجموعة . عن قصد، يذهب غسان إلى نبش التاريخ الفلسطيني ، قبل النكبة ، ويقرأ دور السلاح في الثورة وأهمية الحفاظ على نظافته، يختار عنواناً للمجموعة يفصل فيه بوضوح بين "الرجال" وبين "البنادق" ويحدد المسافة اللازمة بينهما. نقرأ في عنوان قصة أخرى في نفس المجموعة عن "الصغير وأبوه والمرتينة يذهبون إلى قلعة جدين" هكذا، يجعل كنفاني للبنادق ذات مستقلة، المرتينة تتنفس لوحدها وتسير لوحدها وهي ذات فاعلة، لأن بوصلتها صائبة وتعرف الوجهة والهدف. تعرف نفسها. لان من يحملها ، يعلمها هويتها ووظيفتها.. وإن لم تكن كذلك فأنها تتحول إلى شيء بلا قيمة مجرد قطعة حديد وماسورة صدأة تنام تحت هذا الفراش. إن السلاح بالنسبة لكنفاني له وظيفة واحدة: تحرير الوطن واسترداده من قبضة العدو. والسلاح، إن كان لازماً وضرورياً، وهو كذلك، فليكن إذن في خدمة الثورة والجماهير، وليكن ملكية جماعية، لأن الدليل الكاذب يمكنه أن يخدع الأفراد والرجال ويأخذهم إلى الموت في الصحاري لكنه لن يخدع الثورة وكل سكان المخيم. أكثر من ذلك: إن الذي يضل الطريق هو من يملك قرار السلاح ويرشده وليس السلاح وثنائية الخيانة / البطولة لا تصدر عن البنادق ولا عن الرصاص، فمن وجهة نظر كنفاني، الإنسان هو المسؤول وهو الذي يجب أن يعرف ويتسلح بالوعي والإرادة ولماذا يقاتل ومن يقاتل وكيف يقاتل، وكلها شروط لازمة تسبق تعلم إطلاق الرصاص! المرتينة التي تعاقبت عليها فصول الزمن وصارت قديمة إنما تتحول الآن في عين "الصغير" الذي كبر، إلى عروس أو فرس. إنها مرتينة ذاهبة للقتال في صفد (أو في أي مكان آخر يحاصره العدو) ويعرف البطل أن الوصول إلى صفد لن يستقيم بدون المرتينة، أنها ضرورة الرحلة من أجل فك الحصار عن الرجال المحاصرين. إن مجرد التفكير في الذهاب إلى المعركة، بدونها، يبدو ضرباً من العبث. يذهب "ويستعير المرتينة"، من خاله، ولكنه يشتري الرصاص من قرية مجد الكروم، ويسير على قدميه ساعات طوال وهو يمشي في الوحل والطين ويصعد الجبال ويهبط في الأودية إلى أن يصل. بين "الصغير" والبندقية تنشأ علاقة تتجاوز فكرة القتال والحرب والرموز، صار يأمرها ويحنو عليها، يريد أن يخبأها من عيون الانجليز والعسس. إنها الأن مسروجة ومعدة للمعركة وأنه يتحدث إليها ويداعبها، بعد أن يغرزها في الأرض، أمامه، ويتكأ هو على صخرة: "سوف أحصل عما قريب على مرتينة خاصة، ستكون لي وحدي، وأنت ستعودين إلى بيتك، تحت فراش الصوف، وإذا سمح لك بالخروج، فإنما لاصطياد العصافير والسناجب فقط، الثعالب أيضا، ربما، في حالات نادرة" ويواصل : "رغم ذلك فأنت مرتينة طيبة، وتصويبك لا يكاد يخطئ، المهم في الأمر ، انك أمينة، فأنت لا تخرجين رصاصك إلا من مكان واحد، أنني أرجو ذلك على الأقل