في قراءة المشهد الفلسطيني الذي يتشكل

حجم الخط
يوماً بعد آخر، تتضح تدريجياً معالم المشهد الفلسطيني، الذي تجري صياغته على وقع خطى المصالحة، التي رغم تباطؤها، وتعثرها، إلا أنها لا تزال تشكل الوجهة العامة التي تؤطر فعل الأطراف الفلسطينية الرئيسية، وتكشف غاياتها وطموحاتها الحقيقية. بعد التصريح الذي أطلقه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس السيد خالد مشعل، وأكد خلاله على أهمية اتفاق الفصائل بشأن إعادة بناء منظمة التحرير، واعتبار ذلك الولادة الثالثة للمنظمة، تأتي دعوة رئيس الحكومة في غزة، الشيخ إسماعيل هنية، لحركة الجهاد الإسلامي، من أجل البحث في اندماج حركتي "حماس" و"الجهاد"، لتشير إلى مستوى الجدية التي تتعامل من خلالها "حماس" مع العناوين الرئيسية لمؤسسة القرار والفعل الفلسطيني، وهما منظمة التحرير والسلطة الوطنية. لم يكن اختيار التوقيت، عبثياً وعفوياً، والدعوة لا تشير إلى مجرد توجه لفظي، بقدر ما أنها تشير إلى أن "حماس" باتت تفكر جدياً في كيفية التحضير من أجل الحصول على أغلبية في الانتخابات المقبلة، سواء التشريعية أو للمجلس الوطني الفلسطيني، وحتى الانتخابات الرئاسية. تدرك "حماس" أن ثمة توازناً نسبياً في القوة الانتخابية بينها وبين حركة فتح، لا يفسدها أو يؤدي إلى الإخلال بها سوى ضعف وتشتت الوحدة الداخلية لحركة فتح، والتي كانت السبب الرئيسي في خسارة هذه الحركة بعدد من المقاعد، وفوز "حماس" بأغلبيتها في الانتخابات التشريعية السابقة. لمعالجة هذا الأمر، ثمة مبادرة فتحاوية، لدعوة مؤتمر الحركة إلى جلسة استثنائية بهدف توحيد صفوف الحركة، التي خسرت، بغض النظر عن الدوافع والأهداف، جزءاً من رصيدها، بعد قرارها بفصل عضو لجنتها المركزية، وأحد أهم رجالاتها محمد دحلان، الذي لا يزال يحظى بشعبية داخل الحركة، وإلى حد ما خارجها. لا يشبه وضع حركة حماس بأي حال، وضع حركة فتح، فـ "حماس" قوة فتية، متماسكة رغم ما يشاع عن تعارضات في داخلها، فضلاً عن ارتفاع معنوياتها، إثر النجاحات التي حققتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس، والمغرب، والتي من المتوقع أن تحققها في العديد من البلدان العربية، التي تشهد حراكاً متواصلاً من أجل التغيير. الأمر هنا يتعدى البعد المعنوي، إذ أن هذه المتغيرات الدراماتيكية والتاريخية، تشكل بالنسبة لحركة حماس قوة داعمة ومساندة على مختلف المستويات، كما أنها تفتح بوابات الشرعية العربية أمامها كحركة ومؤسسات، سواء نجحت المصالحة أو تعثرت. لقد لاحظنا ذلك من خلال الزيارات الرسمية التي قام بها رئيس حكومة غزة إسماعيل هنية، لعدد من الدول العربية، والإقليمية، والتي سيستكملها لعدد آخر خلال الشهر الجاري، فلقد اعترفت تونس، وتركيا فضلاً عن السودان، بشرعية حكومته، انطلاقاً من الشرعية الانتخابية التي حصلت عليها حركة حماس في كانون الثاني2006. وسواء تعلق الأمر بالسلطة ومؤسساتها، أو بمنظمة التحرير الفلسطينية، برنامجاً، ومؤسسات، وقرار وآليات، فإن حركة حماس، تدرك حاجتها الماسة، لتجميع كل عناصر قوتها، ومنها تحالفاتها في الساحة الفلسطينية، من أجل الفوز بالمعارك الانتخابية المقبلة، باعتبارها تشكل مفصلاً تاريخياً ومهماً، يحدد اتجاهات تطور المؤسسة الفلسطينية وسلطة القرار فيها. وإذا كان من المستبعد أن يتم الاتفاق بين الحركتين حماس والجهاد، على الوحدة الاندماجية في غضون الأسابيع والأشهر القليلة، فإن بإمكان "حماس" أن تفوز بالحد الأدنى، وهو ضمان دعم حركة الجهاد الإسلامي لها في الانتخابات، ودعمها سياسياً وإجرائياً، فيما يتصل بخطوات المصالحة الفلسطينية. حركة الجهاد الإسلامي لا تزال تتمسك بسياساتها ومواقفها الرافضة لاتفاقية أوسلو، وما نجم عنها، بما في ذلك وأساساً السلطة، وترفض بالتالي المشاركة في الانتخابات التشريعية والرئاسية، لكنها إن اختارت أن تثمر قدراتها وإمكانياتها الانتخابية، فإنها ستختار دعم من تعتبرهم حملة مشروع المقاومة، وحملة المشروع الإسلامي، خصوصاً في ضوء الآفاق التي يفتحها الربيع العربي أمام أصحاب هذا المشروع. في هذا الإطار، يبدو أن القيادي في حركة الجهاد الإسلامي خالد البطش، قد استعجل الأمور، أو أن تصريحه بالموافقة على الوحدة مع حركة حماس، كان من باب المجاملة والرغبة، لا أكثر، فالوحدة بين الطرفين دونها، عقبات تتصل بطبيعة توجهات الحركتين السياسية والتنظيمية والعقائدية، فضلاً عن البعد الذاتي، الذي يكاد يكون خاصية متجذرة لدى قيادات العمل الفصائلي الفلسطيني من يسارها إلى يمينها. بسعيها لكسب دعم وتأييد حركة الجهاد الإسلامي، تكون حركة حماس قد بنت من حولها طوقاً من التحالفات الفلسطينية، تشكل هي مركزه وقيادته، والأقدر على استثماره والتصرف بإمكاناته، ويشمل طيفاً من التيارات والفصائل الإسلامية وغير الإسلامية، المعروفة بتناقضها الشديد، مع حركة فتح، وهي تحديداً الفصائل التي تتخذ من دمشق مقراً لقياداتها، بالإضافة إلى منظمات وجماعات إسلامية موجودة في الداخل الفلسطيني. ولا نستبعد في هذه الحالة، أن تبادر "حماس" لمحاولة استمالة فصائل أخرى تشاركها الرؤية السياسية، والمواقف المناهضة لأوسلو، وللمفاوضات، فإن نجحت جيد وإن لم تنجح فعلى الأقل، يمكن أن تستهدف تحييدها، وإقناعها بعدم التحالف مع حركة فتح. هكذا تكون حركة حماس قد أظهرت براغماتية عالية، ومرونة كبيرة في التعامل مع المستجدات للفوز بتحقيق الأهداف التي ترسمها لنفسها، الأمر الذي يشكل أداة قياس يظهر مدى عجز القوى والفصائل الأخرى، وتخلفها إزاء كيفية تجديد وتحسين قدراتها وأدوارها وفعاليتها. يدفعنا هذا الإدراك إلى الفشل الذريع، الذي أصيبت به كل محاولات توحيد اليسار الفلسطيني، تلك المحاولات التي ظهرت مبكراً، وبدا في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، أن تحقيقها بات قاب قوسين أو أدنى، ولا تزال قيادته تتحدث بأسى وحسرة عن أسباب الفشل. لم تنجح القوى اليسارية المتقاربة كثيراً في أيديولوجياتها، وبرامجها ومواقفها، لا في توحيد نفسها، ولا حتى في تأمين صيغة جدية من التنسيق الحقيقي فيما بينها، الأمر الذي أدى إلى عجزها عن لعب دور فاعل، لا في منع الانقسام الفلسطيني، ولا في تحقيق المصالحة، ولا أيضاً في ميدان النضال ضد الاحتلال. وفي حين تحتفظ حركة فتح لنفسها ببعض التحالفات الداخلية الضعيفة، والتي لا تزيد كثيراً إلى وزنها الانتخابي، فإنه لا تلوح في الأفق، احتمالات المبادرة نحو توسيع هذه التحالفات، للاحتفاظ بدورها ومكانتها في مؤسسة القرار الفلسطيني، كما أن هذا الاحتمال يغيب عن جدول أعمال قيادات الفصائل اليسارية، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً أمام حركة حماس وحلفائها في الساحة، لأن تقتحم بقوة المؤسسة الفلسطينية، وأن تكون صاحبة اليد الطولى في صياغة مستقبلها ومستقبل المشهد الفلسطيني، وعند ذاك، يمكن الحديث عن الولادة الثالثة لمنظمة التحرير الفلسطينية.