محمد حسنين هيكل.. اسم وقامة عالية في عالم الصحافة والسياسة

حجم الخط

   رحل هيكل وترك ورائه بصمة العظماء في عالم الصحافة، لم يكن صحافياً عادياً، كما لم يكن إعلامياً تقليدياً، ولم يكن مؤرخاً أكاديمياً جامعياً، بيْد أنه يجمع بين هذه وتلك، فكان صحافياً من القامات الرفيعة طيلة سبعة عقود، وإعلامياً من النخب العالية التي تربعت على عرش الإعلام، ومؤرخاً وشاهداً على عصر كامل من التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد استطاع أن يتفوق ويتجاوز ما هو مرسوم للصحافي العادي، ويتحول في غضون سنوات قليلة إلى رجل إعلام يستقطب اهتمام الرأي العام العربي، ويتربع على عرش صاحبة الجلالة "الصحافة" كان إعلامياً قادراً على صناعة الإعلام، فحوّل صحيفة "الأهرام" إلى أهم الصحف العالمية، وأسس بها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية يُضاهي المراكز العالمية.

     كان الإعلام بالنسبة له ليس نشاطاً دعوياً، بقدر ما كان يعتبره رسالة ثقافية وبنية سياسية تتفاعل مع الأحداث والتحولات، وتؤسس لرأي عام يواكب مجريات العصر، كان في ريعان شبابه الصحافي المسمى "رجل المتاعب" أو الباحث عنها، يُلاحق ويطارد الأحداث ويضعها في قالب روائي وسياسي ممتع.

    عاصر الصحافة والسياسة في عهد ملك مصر والسودان الملك فاروق، وجلس على شرفة البرلمان يراقب من علو ويتأمل الحوارات والنقاشات والخلافات بين أعضاء البرلمان الملكي، يسجل الأحداث والانطباعات، يصوغها ويقدمها للقارئ وللسياسي في حلة قل نظيرها بين الصحافيين.

   عمل في مجلة "روز اليوسف" ذات الصيت السياسي والمعارض، وعمل في صحيفة أخبار اليوم ورافق عمالقة الصحافة المصرية منذ شبابه، عمل مع محمد التابعي في مجلة آخر ساعة، ورافق إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين، والأخوين مصطفى وعلي أمين وموسى صبري وصلاح منتصر، والعديد ممن كانوا على سدّة الهرم الصحافي أمثال احمد حمروش، الذي كان قريبا من الضباط الأحرار وفكري أباظة وفتحي رضوان ورجاء النقاش ويوسف إدريس ويوسف السباعي وصلاح الدين حافظ وصبري أبو المجد ولطيفة الزيات وجلال الدين الحمامصي.

    ومما لا شك فيه أن هيكل قد توفرت لديه فرصة أن يكون إلى جانب الزعيم عبد الناصر ويتربع على عرش مؤسسة الأهرام عام 1957، الأمر الذي أتاح له ما لم يتاح لغيره في عهد عبد الناصر، لكن نبوغه الصحافي والسياسي هو الذي خلق منه هذه القامة الصحافية والسياسية العالمية، فقد توفّر لغيره أن يكونوا إلى جانب الرؤساء، ولكنهم كانوا أسرى وظيفتهم ومواقعهم في الصحافة، فقد توفر لرؤساء تحرير أن يكونوا قريبين من السادات ورؤساء تحرير لصحف مدة زمنية طويلة، مثل ابراهيم نافع، وابراهيم سعده وموسى صبري وصلاح منتصر، وغيرهم لكنهم على كل نتاجاتهم ظلّوا ما دون قامة هيكل، وربما البعض منهم بالكاد يتجاوز اسمه الصحافة المصرية، أو الأحزاب المصرية وسياسييها، بيد أن هيكل قد جاهد بكل طاقته الإبداعية في أن يتبوأ المركز الأول في عالمه العربي وأهم المراكز في الصحافة العالمية.

   لقد أسند إليه الرئيس عبد الناصر وزارة الإرشاد "الإعلام" وترك له حرية العمل في الصحافة وعالم الإعلام بناءً على رغبة هيكل نفسه، فقد كان شغوفاً بالصحافة أكثر من ميله إلى تبوئه المسؤوليات في السلطة السياسية، حيث لا يرى نفسه إلا من خلال مرآة الصحافة والإعلام والخبر اليومي، لم تغرِه السلطة أو القرب منها بقدر ما أغراه مخزن أو مستودع المعلومة في السلطة، الأمر الذي أتاح له أن يطل على وثائق ومحاضر وأرشيف وقرارات، أبدع في استخدامها وتوظيفها بالتحليل والتمحيص والمزج والاستنتاج عبر مقالاته وكتبه.

    لقد سطع نجم هيكل الصحافي مبكراً حين سجل وأسس ماركته المسجلة في المقال الأسبوعي "بصراحة" في خمسينيات القرن الماضي مع تسلمه رئاسة الأهرام، وأصبح مقاله ينتظره الرأي العام المصري والعربي بفارغ الصبر، بل إن كثير من الدوائر السياسية والاستخباراتية العالمية كانت تعتمد على محتواه في تفسير ظاهرة عبد الناصر السياسية.

   وأذكر كيف كنا في ستينات القرن في قريتنا الصغيرة التي يقل فيها المثقفون وتكثر فيها العامية، كيف كان يتجمع أهلها على "الترانسستور" لسماع المذيع الإعلامي ذو الصوت الجهوري أحمد سعيد وهو يقرأ عبر صوت القاهرة مقال هيكل يوم الخميس، حيث كان المقال مصدر تحليل عامة الناس ومواقفهم، ومن هنا فإن هيكل كان صحافياً يصنع رأياً عاماً أكثر منه صحافياً ينقل معلومة، أو يتابع حدثاً، وهذا ما جعله مُختلفاً عن غيره من جيله من الصحافيين.

    كما يحضرني في عام 1982 حينما صدر كتابه "خريف الغضب" عن الرئيس السادات، حين انبرى العديد من صحافيي السلطة في عهد السادات للتصدي لهيكل ومهاجمته على كتابه الذي يتناول فيه السادات اجتماعياً وسياسياً، ومن ضمن هؤلاء الصحافيين كان موسى صبري وابراهيم نافع وابراهيم سعدة، ومنهم صلاح منتصر، بيد أن الأخير في سياق نقده لهيكل أراد أن يقول أن هيكل قامة وأستاذ ومختلف ولا يجوز له أن يقع في الخطأ، وفي سياق نقده لهيكل قال "بانه يذكر بعد انتصار ثورة 23 يوليو ذهب هو وعدد من الصحافيين ومن ضمنهم هيكل لمقابلة الضباط الأحرار للتعرف عليهم ومعرفة توجهاتهم ومن ضمنهم جمال عبد الناصر ومحمد نجيب، وأخذ كل منا يسأل قيادة الثوار: ما الذي ستفعلونه بعد الآن؟، وكانت حالة الاستفسار هي الطاغية في حديث الصحافيين كافة، إلا حديث هيكل، فوحده الذي كان يوجه كلامه للضباط الأحرار قائلاً: "افعلوا كذا وكذا" أي أنه كان يريد أن يواكب الحدث ويشارك في صناعته، ويضيف صلاح منتصر بأن هذه الواقعة تسجل لهيكل، لتميزه عن الآخرين كمثابر وإعلامي من الطراز الرفيع.

   وحين نتحدث عن هيكل الصحافي والإعلامي، في الواقع نتحدث عن إنتاجه السياسي والفكري، وعن تأريخه ليس لمرحلة سياسية فقط وإنما لقرن كامل، أجاد في التقاط أحداثه وتحولاته، سيما حال الأمة العربية منذ نهاية الاستعمار العثماني مروراً بالاستعمار الفرنسي والبريطاني، ووقوفاً على واقع الأمة الحالي، وانهيار دولها الوطنية في ظل ما يسمى "الربيع العربي".

   وها هو يكتب "خريف الغضب" الذي أحدث ضجة صحافية وسياسية في مصر والعالم، وكتب قصة "آية الله – إيران والثورة" والعروش والجيوش، والمفاوضات السرية بين العرب و "اسرائيل" كاشفاً المستور في السياسة العربية، وكتب مذكرات قناة السويس، وحرر بداية فلسفة الثورة لعبد الناصر، ومئات الكتب والمقالات والمقابلات.

   لم يقبل هيكل أن يكون موظفاً عادياً في مؤسسات الصحافة، كان يريد أن تكون له بصمته في الصحافة والسياسة والفكر السياسي، وأحيانأ في القرار، فهاهو يرفض أن يكون مستشارا للسادات في قصر عابدين بعد أن أزاحه السادات عن مؤسسة الأهرام في عام 1974 على أثر الخلاف الذي نشأ بينهما على سياسة الخطوة خطوة، التي اعتمدها وزير خارجية أمريكا كيسنجر في معالجة فك الارتباط والتسوية السياسية حينذاك، فقد وصل هيكل إلى أن السادات كان يخرج باستنتاجات تحولت لاحقاً إلى خيارات ثم قناعات قامت عليها سياساته ومبادراته تجاه أمريكا.

    وهنا بدأ الصدام مع السادات، وذهب هيكل إلى عالمه وفضائه الواسع مغادراً فضاء السلطة وحواريها، باحثاً عن قمم أخرى في عالمه الصحافي والإعلامي، ليُفجر طاقات غير متوقعة سياسية وفكرية في عالم الصحافة العالمي.

    وإذا كان عبد الناصر قد قربه منه فإن السادات قد قربه منه في البداية إلا أنه عزله لاحقاً، وزجه في السجن مع العديد من الصحافيين والكتاب والسياسيين، تلك الحادثة التي شكلت نهاية عهد السادات باغتياله على يد الإسلاميين الذين قربهم في بداية حكمه من نظامه، وفي عهد مبارك تم إهمال هيكل تماماً بالرغم من الرسائل التي كان يوجهها الأخير لمبارك، ومحاولته أن يسدي له نصحاً وأن يكون قريباً من صنع القرار، يُشار هنا إلى أن هيكل هاجم مبارك في أكثر من مناسبة، حيث طالب برحيله من الحكم ووصفه بـ "سلطة شاخت في مواقعها" مما أثار غضب مبارك عليه، ولاحقاً كتب مؤلفه تحت عنوان "مبارك وزمانه – من المنصة إلى الميدان" وعجز هيكل عن سبر شخصية مبارك ووصفه بأنه رجل غامض ورئيس جاء بالصدفة ولا يملك مقومات الزعامة، وكان قبل ذلك وقف ضد محاولة التوريث لابن مبارك وأخذ موقفاً من الرئاسة الخاصة لمبارك قبل ثورة 25 يناير، مما أثار غضب مبارك وبعض الصحافيين مثال عماد الدين أديب.

    لقد ترك هيكل وراءه ثروة من المؤلفات والمقالات التي تُرجم بعضها إلى أكثر من 25 لغة عالمية، لقد ترك ثروة من الفكر والتاريخ السياسي لمراحل عديدة من حياة مصر، ومن خفايا وأسرار الملوك والرؤساء العرب، كتب سيرة الوحدة بين مصر وسوريا وإرهاصاتها وتجلياتها وعوامل ضعفها وانهيارها والدور السعودي في الانفصال، وكتب عن الملك المغربي الحسن الثاني الكثير وسياساته ووصفه بأنه قرأ ميكافيلّي أميراً وطبّق آرائه ملكاً، وعن انقلاب قصر الصخيرات ودور الجنرال أوفقير، وكتب عن الملك حسين وعلاقاته ومواقفه، وربما أجاد في التفصيل والإمتاع حين كتب عن خديوات مصر والملك فاروق وخصوصيات وفساد العائلة وباشوات العصر، وعلى مدار سنوات كان يكتب في مجلة "وجهات نظر" أهم المقالات والموضوعات الراهنة والتاريخية، وكتب عن شاه إيران وعلاقاته مع عائلة فاروق وزوجته الأميرة فوزية، كان له في كل مجال مقال، ولا يتسع المقام للإطلال على ما كتبه هيكل وقد يحتاج إلى مركز دراسات آخر للبحث عن تراث هيكل في الصحافة والسياسة.

   لم يكن هيكل بدون خصوم، فقد عارضه واختلف معه كثير من الصحافيين والكتّاب، ولعل قربه من عبد الناصر..وتجاوزه للصحافيين الكبار من جيله جعله عرضة للانتقاد الدائم وربما الحسد، وقد كان الأخوين مصطفى أمين وعلى أمين من أهم خصومه بعد ثورة 23/يوليو، وهما من أهم أعمدة الصحافة في مصر، حيث ترأسا صحيفة أخبار اليوم، وغيرهم من الكتاب الذين لم يروا فيه إلا باحث عن السلطة والقرب من السلاطين، لكن هيكل كان مختلفاً عن البقية، لم يحصر نشاطه في مهنته الصحافية فحسب وإنما عمل على مزج النشاط الصحافي والسياسي واقترب من صانع القرار دون أن يغادر عالمه الصحافي، وعليه فإن الخلاف بين هيكل والأخوان أمين هو خلاف سياسي، والفارق بينه وبينهما أنه أدرك أهمية الولوج في العهد الجديد، عهد الثورة، أما الآخريْن فظلّا في عصر ما قبل الثورة يمارسون اللبرالية الصحافية كمهنة وتراث ماضٍ، فكان أن صعد هيكل إلى القمة بقدراته الفائقة ومهنيته العالية، في حين ظل الأخويْن في مكانهما، وصولاً إلى دخول مصطفى السجن بتهمة التخابر، وعلي أمين يختار النفي الاختياري، ولم يسلم هيكل من صحافيي حزب الوفد أو صحافيي الإخوان المسلمين والأحزاب المنحلة في عهد عبد الناصر.

   كما لم يسلم هيكل من الحُسّاد والطامحين مثله، إذا اتهمه البعض بأنه "محفوظ عجب" أي شخصية الانتهازي الباحث عن المواقع بأي وسيلة !!

   لكن الحقيقة أن هيكل كان نموذجاً مختلفاً من حيث كفاءاته الصحافية المتعددة، وخياره القومي العروبي، ومواقفه العربية طيلة تاريخه السياسي والصحافي، وربما البعض أخذ عليه وقوفه إلى جانب الرئيس السادات في مواجهة من أسماهم هيكل حينها "مراكز القوى" الذين يحضرون الأرواح للانقلاب على السادات!، ومنهم رفاق عبد الناصر كعلي صبري وسامي شرف ومحمد فوزي وشعراوي جمعة وضياء الدين داوود ومحمد فائق وغيرهم، الذين وضعهم السادات في ليلة واحدة في السجون، وقد برر هيكل موقفه بأنه وقف إلى جانب الشرعية من وجهة نظره في مواجهة مؤامرة لم تنضج، سبقها السادات في تعطيل مفاعيلها، وأن الأولوية هي للتحضير لمحو آثار العدوان الاسرائيلي، فانتصر السادات وانتصر له هيكل، وهنا انضم الوفديّين والإخوان اليساريين في اتهام هيكل بالانتهازية، وإذا كانت هذه سقطة سياسية في حياة هيكل الصحافية، إلا أنها في الواقع لا تقلل من مكانة الرجل وعطائه الصحافي والفكري، فنحن نتحدث عن رجل ليس رئيس لحزب سياسي او وزير، إنما نتحدث عن صحافي باحث عن المعلومة وباحث عن مصدر المعلومة، وصانعها، وتبقى هذه السقطة لها ظروفها وتفاصيلها التي لا تبرر لهيكل أن ينحاز إلى خصوم عبد الناصر.

  وظل هيكل يكتب ويحاور ويصارع صانعاً عالمه الخاص دون أن يتأثر من انتقادات معارضيه، ولم يدخل معهم في سجالات شخصية، ولم يفقد البوصلة في مواقفه ومهنته كصحافي رزين منتج ومثابر ومحاور.

    ويبقى هيكل سيرة سياسية إبداعية واقعية قومية عربية إعلامية صعدت إلى مصافي السِيَر العظيمة في تاريخنا السياسي والوطني.