إنها إسرائيل التوسعية تتجدد

حجم الخط

   دأبت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بالوانها الحزبية المختلفة، على إعلان أنها "ستحتفظ بالقدس المُوحدة إلى الأبد"، وأنها "ستحتفظ بالكتل الاستيطانية الكبرى في الضفة إلى الأبد"، وأنها "ستحتفظ بسيطرتها على منطقة الأغوار إلى الأبد"، وأنها "ستحتفظ برفضها المطلق لحق عودة اللاجئين إلى ديارهم التي شردوا منها إلى الأبد". أما حكومة المستوطنين، بقيادة نتنياهو، فقد أضافت لـ"خطاب إلى الأبد" هذا إعلانيْن جديديْن، يتمثل الأول في تصريحات بعض أركانها، (مع صمت مركز قرارها الليكودي)، حول نية إسرائيل ضم المنطقة "سي" التي تشكل 60% من مساحة الضفة. أما الثاني فيتمثل في اعلان حكومة نتنياهو بكامل قوامها، بصورة قاطعة مانعة، لا تترك مجالاً للشك أو الالتباس أو التأويل، أن إسرائيل "ستحتفظ بالجولان السوري إلى الأبد"، وأن على العالم الاعتراف بـ"سيادة إسرائيل عليه".

   وإذا ما أردنا فهماً دقيقاً لهذا التصعيد السياسي الإسرائيلي غير المسبوق منذ ما يسمى "مؤتمر مدريد للسلام"، عام 1991،، لقلنا إن الانقسام الفلسطيني المُدمر، والصراع الجهنمي الدائر في بعض الأقطار العربية، وفي سوريا وعليها خصوصا، إن هو إلا الظرف السياسي المناسب الذي أنعش تطلعات قادة إسرائيل الكامنة، وحرك نواياهم المبيتة، لتحقيق المزيد من الأهداف الصهيونية، لدرجة أن يدفعهم نحو الإفصاح عنها، ومحاولة إدراجها على جدول أعمال السياسة الدولية، والسعي إلى إقناع العالم، (عجماً وعرباً)، بها، جنباً إلى جنب مع تسريع تنفيذها على الأرض على يد أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفاً وتمثيلا لما طرأ على بنية إسرائيل الداخلية، في السنوات الأخيرة، من انزياحات كبيرة نحو المزيد من التشدد الأيدولوجي الماثل في تطابق سياسة حزب الليكود الصهيوني العلماني المتطرف مع سياسة الأحزاب الصهيونية الدينية الأكثر تطرفاً، بشقيها القومي و"الحريدي"، (أي المتزمت). وهو التطابق الذي يعكس توظيف الاتجاه الصهيوني العلماني للأساطير التوارتية التلمودية، ما جعل، ولا يزال، الخطاب العلماني الصهيوني، وبالتالي الإسرائيلي، خطاباً تلفيقياً قطع مع الديانة اليهودية وأبقى الصلة مع أساطيرها، واستخدمها، بقناعة وعن سابق إصرار، لإقامة "وطن قومي لليهود في فلسطين"، أي "دولة يهودية بين البحر والنهر"، مع العمل على توسيع حدودها لتشمل ما أمكن من مساحة الأرض العربية الواقعة "بين النيل والفرات".

   وكل ذلك من دون نسيان التوافق، القديم الجديد، بين حزب العمل الصهيوني العلماني "المعارض" وحزب الليكود الحاكم على توظيف الأساطير الدينية لتحقيق كامل أهداف المشروع الصهيوني. كيف لا؟ وحزب العمل هو الحزب الذي أرسى دعائم هذا التوظيف، ومارسه، بوعي، طيلة سنوات قيادته، بلا منازع، لاتئلافات الحكم في إسرائيل، (1948- 1977). وكيف لا؟ وحزب العمل هو الحزب الوارث لصهيونية بن غوريون الذي لم يقبل "قرار التقسيم"، عام 47،  إلا من باب المناورة، والتكتيك، والاحتيال على السياسة الدولية، والإعداد والاستعداد، لما ستشنه إسرائيل، بقيادة حزب العمل، في العام 67، من عدوان مبيت لاحتلال الضفة والقطاع، الجولان السوري، وسيناء المصرية.

   إن الانزياحات اليمينية المتطرفة في بنية إسرائيل الداخلية هي المحرك الأساس لإعلان المواقف الإسرائيلية الإستراتيجية، (وغير المفاجئة برأيي)، من الضفة والجولان السوري. وإذا ما شئنا السير خطوة أخرى في التحليل، لقلنا: إن صحَّ أن تُقرأ المواقف من عناوينها، فهو أصحّ في هذه المواقف الإسرائيلية الجديدة من الضفة الجولان، حيث أن حكومة المستوطنين، بقيادة نتنياهو، لم تغلف مواقفها العدوانية التوسعية باعتبارات الأمن، ذريعة إسرائيل الدائمة، بل بزعم أن الضفة والجولان السوري (وهنا مربط الفرس)، "جزء من أرض إسرائيل". لقد كان لافتاً، وذا دلالة رمزية كبيرة، أن يُطلق نتنياهو، موقف حكومته من هضبة الجولان، من قلبها، بعد اجتماع استثنائي عقدته هناك بمناسبة الذكرى السنوية لتشكيلها، والذكرى السنوية لـ"جلاء الاستعمار الفرنسي وإعلان استقلال سوريا". وكان لافتاً، وذا دلالة كبيرة، أيضاً، أن يكون الصمت المطبق هو سيد مواقف الأحزاب الصهيونية "المعارضة" تجاه الموقف الإستراتيجي الذي أطلقته حكومة نتنياهو حول هضبة الجولان، ذلك باستثناء تعليقات صحافية خجولة تقول: "لم يكن هناك حاجة لأن توقظ حكومة إسرائيل دببة الجولان من سباتها على مدار 49 عاماً". وأكثر، فقد كان لافتاً، وذا دلالة، أيضاً وأيضاً، أن تتزامن تصريحات بعض أركان حكومة نتنياهو حول نية إسرائيل ضمَّ 60% من مساحة الضفة، مع تراجع حزب العمل عن تأييده النظري لما يسمى "حل الدولتين"، بدعوى مصاعب تطبيقه، وإعلان رئيسه، هيرتصوغ، خطة انفصال من طرف واحد في الضفة، على غرار ما فعله شارون في قطاع غزة، في العام 2005، إنما من دون أن يشمل الانفصال في الضفة تفكيكا للكتل الاستيطانية الكبرى فيها. واستطرادا، فقد أعلن هيرتصوغ "المعارض" هذا، مؤخراً، أنه يكره العرب لكونهم عرباً.

   هذا يعني أن ثمة توافقاً بين الأحزاب الصهيونية، الحاكم منها و"المعارض"، على الموقف من الضفة والجولان، بمعزل عن اختلاف طريقة، وأشكال، التعبير عن هذا الموقف. أما أن تُعلن حكومة نتنياهو موقفها من الجولان في ظل مناورات عسكرية في "الجبهة الشمالية"، وبعد اسبوع على إعلان رئيسها، نتنياهو، وأيضاً من الجولان، عن مسؤولية إسرائيل عن "عشرات الضربات الجوية" التي نفذها جيشها داخل سوريا، في السنوات الخمس الماضية، فلا يحمل جديداً سوى الإقرار الرسمي بأن إسرائيل تستغل الأزمة السورية الداخلية، وتتدخل فيها بأشكال شتى، بما فيها التدخل العسكري المباشر، ما يعني الإمعان في العدوان على سوريا وسيادتها، والتمادي في انتهاك القوانين الدولية، وخرق شروط اتفاق الهدنة السائدة في جبهة الجولان، برعاية هيئة الأمم المتحدة، منذ العام 1974.

   على ما تقدم، بات ثمة حاجة إلى تشخيص وفهم دقيقيْن للتحولات الجارية، منذ سنوات، في بنية إسرائيل، أبرزها تعاظم دور التيار الصهيوني الديني القومي في صياغة القرار السياسي والعسكري والأمني الإسرائيلي، وانخراط هذا التيار تحت قيادة حليفه حزب الليكود الصهيوني العلماني الذي رفض قرار التقسيم في العام 1947، وناهض مناورة بن غوريون تجاهه، بل ورفض، (حزب الليكود)، في العام 93، اتفاق أوسلو الذي اعتبره مهندسه، الداهية بيرس،(الإنجاز الإستراتيجي الثاني بعد قيام دولة إسرائيل). هذا يعني أن الموقف الإستراتيجي الذي أعلنته حكومة نتنياهو من الجولان السوري المحتل، وطالبت العالم بالتسليم به، إن هو إلا امتداد لمواقفها الصريحة تجاه الصراع على الجبهة الفلسطينية. فمن الرفض المطلق لحق عودة اللاجئين، إلى تكثيف تهويد القدس، واعتبارها ("عاصمة دولة إسرائيل الأبدية")، إلى تسريع استيطان ما تبقى من أرض الضفة، وإطلاق الدعوات إلى ضم أغلب مساحتها، وصولاً إلى، (وهنا بيت القصيد)، التشبث بمطلب الاعتراف بإسرائيل "دولة للشعب اليهودي"، وسن المزيد من القوانين العنصرية التي تزيد إسرائيل، بما هي دولة احتلال استيطاني إقصائي احلالي، فاشية على فاشية.

   لذلك، فإن من المنطقي لدرجة البداهة أن يضيف نتنياهو لـ"إعلانات إلى الأبد"، إعلان "أن إسرائيل ستعيش على حد السيف إلى الأبد". فهذا ليس، فقط، من مقتضيات برنامج حزبه الذي كان، ولا يزال، (سلطة واحدة بين البحر والنهر)، بل هو، أيضاً، تحصيل حاصل لتحالف حزبه مع الأحزاب الصهيونية الدينية القومية و"الحريدية" التي ترفض التخلي، (كما أعلن نتنياهو من الجولان)، عن أي شبر "تم تحريره"!! "من أرض الميعاد"، "أرض الآباء والأجداد"، "أرض إسرائيل الكاملة"، وكأن ما قامت به الحركة الصهيونية، في العام 48، ليس عملية ابتلاع لـ78% من أرض فلسطين واقتلاع لأغلب سكانها الأصليين، أي عملية تطهير عرقي بشعة، قل نظيرها في التاريخ المعاصر، أو كأن ما قامت به إسرائيل، في العام 67، ليس عدواناً مبيتاً لاحتلال واستيطان وتهويد ما تبقى من أرض فلسطين، والسيطرة على الجولان وسيناء، بما صاحب ذلك من نزوح قسري لمئات آلاف الفلسطينيين والمصريين والسوريين. إنها إسرائيل بن غوريون وجابوتنسكي التوسعية العدوانية تتجدد.