حكايتي مع عوني

حجم الخط

بعدما قضى 8 سنوات في سجون الاحتلال، خرج أبو باسل من سجنه عام 1984، ولم يكن في بيته إلا أمه المريضة وحيدةً، لأن والده كان قد توفي قبل ذلك بعامين، وعاش حسرة فراقه في السجن وقد حرمه الاحتلال من أن يلقي نظرة الوداع عليه.

قرر أبو باسل الزواج مشترطًا أن تكون زوجته من لجنة المرأة في الجبهة الشعبية، فحضر الرفيق القائد أبو ناصر دردونة على رأس جاهة الخطبة ومعهم 1500 دينار مهرًا لي، لكن إخوتي رفضوا مبدأ أن يكون مهري من مناضل مبلغا نقديا، وخاصة أخي أديب أبو حسن، الذي كان رفيق عوني في السجن، فأخذ المال أمام العائلة وبمجرد مغادرة الجاهة، أعاده لعوني، وقال له أعطِ أختي تشتري فقط ما ينقصها من جهازها، فهي لديها ملابس كثيرة من لبنان ومن عمان وسوريا ومن غزة.

كانت كسوتي كلها ثلاثمائة دينار، والذهب استعرته من رفيقتي سميرة أبو سمرة، ويوم الفرح ألبسني عوني سنسالا أعطته له أمه عندما تحرر من الأسر.

قال لي أخي أديب "أنتِ يا أختي اشتريتِ رجل ولا كل الرجال"، والحمد لله، تزوجنا و استعرت البدلة البيضة من جارتنا ولم ألبس غيرها، رغم أن العروس في ذلك الوقت كانت ترتدي خمسة فساتين بألوانٍ مختلفة.

عشنا حياة سعيدة بسيطة، يدي بيده معًا على الحلوة والمرة. وبعدها بعت السنسال واشترى سيارة بيجو على الخط وقبل الزواج كان يبيع فلافل في السوق هو ورفيقه أبو جياب أبو صفية، وبعد الظهر كان يعمل على السيارة.

بنينا حمّام باطون وغرفة ضيوف، واشترينا تلفزيون، وبعدها عملت في مجلس بيت لاهيا. كنت أصحو قبل صلاة الفجر أطحن الحمص على ماكينة الكهرب، لتجهيزه لمحل الفلافل. بعد إنجابي باسل، اشترينا قطعة أرض وسحبنا قرضا وبعنا بيت المعسكر، لنؤسس بثمنه بيتنا الجديد في المخيم نفسه. صار وضعنا المادي صعبًا، كل الراتب يذهب لتسديد القروض، فاقترح عليّ استئجار محل في السوق لبيع ألعاب الأطفال وقسّمنا وقت تواجدنا فيه، فكنت أفتحه صباحا، وعندما يغادر عمله كان يأتي ليستلمه مني. وبعد سنوات، صار الأولاد في الإجازة يعملون معنا، وبنينا طابقًا ثانيًا: هو يطوبر الحزامات ويخلط الخلطة وأنا والأولاد نناولوا الخلطة بالجرادل علشان يوفر على حاله.

لم أكمل دراستي في جامعة بيروت العربية بسبب اعتقالي أثناء زيارتي للبلاد لأكثر من أربعة أشهر، لكن ومنذ يومنا الأول لم يمنعني أبو باسل من ممارسة نشاطي في لجنة المرأة أو في التنظيم، بل شجعني على ذلك، رغم مسؤولياتنا الكبيرة وحاجة أبنائي للرعاية والاهتمام. كنت أراه يدفع للتنظيم من مصروفه الخاص، وكانت معاملته معي تتجاوز كوني مجرد زوجة فقط، بل رفيقة وأخت وأم وحبيبة.

عندما كنت أغضب، كان طويل الروح، يبقى صامتًا، ولم أره يومًا يضرب أحدًا من أولاده. كان يعاملهم كرفاق وأصدقاء، ولطالما قال لي ابني باسل: "يمّا أبوي صاحبي وقائدي ومرشدي ومعلمي ورفيقي، مش أبوي بس، وهاذي مبادئنا اللي تربينا عليها".

أولادي أنجبتهم في عمليات قيصريّة، وكانت والدته مريضة لا تستطيع رعايتهم، فكان يخدمني ويخدم أمه، ويعمل كل حاجة "زي المرة الشاطرة".

هذا المقال يعيد مواجع وذكريات لم ولن تُنسى، محفورة في روحي، وأتمنى من الله أن أحظى بهذه النهاية والكرامات التي حصل عليها الغالي ورفيق عمري، وأن يعينني على إكمال المشوار والسير على دربه ومسيرته ونهجه الطيب وسيرته العطرة وعمله مع الناس بدون مباهاة وبهرجة. كل أعماله كانت سرية حتى أنا كنت أعرف من الناس، فأقول له: "أنت غويط وكتوم"، فينظر إليّ ويضحك، صاحب النفس الطويل.

كل أيامه التي عشتها معه كانت مليئة بالعمل الجماهيري في جميع المناسبات الوطنية، كذكرى النكبة وفعاليات الأسرى وفعاليات الوحدة الوطنية، فكان من مؤسسي التجمع الوطني الديمقراطي، ورائدًا في العمل الجماهيري، وأحد وجهاء ومصلحي قطاع غزة في الخلافات العائلية والعشائريّة من رفح لبيت حانون، وصاحب كلمة في العمل التنظيمي، وهو من مؤسسي العمل التطوعي في مخيم جباليا ونظم دورات ثقافية ودورات إسعافات أولية.

رحم الله أبو باسل وعاشت ذكراه بيننا حتى يجمعنا الله به.