سياسة التطبيع بين موقف الانظمة وموقف الشعوب

حجم الخط

منذ نكبة فلسطين عام 48 وقيام دولة الكيان الصهيوني كظاهرة استيطانية اجلائية عنصرية كان هناك تباينا في الموقف من القضية الفلسطينية بين موقف النظام العربي الرسمي الذي كان دائما يستجيب بما يقرره المجتمع الدولي عبر قرارات الأمم المتحدة التي اعترفت بدولة الكيان حسب قرار التقسيم عام 47 وبين موقف الشعوب العربية التي تعاملت مع القضية الفلسطينية كقضية قومية تحررية لا تقبل المساومة وإنصاف الحلول وهو الشيء الذي عكس نفسه في السياسات العربية الرسمية خاصة في الدول المضيفة للاجئين الفلسطينيين حيث تم التعامل معهم كقضية أمنية داخلية لها علاقة بقضية الاستقرار والأمن الداخلي وهو مالم يحدث في العلاقة بين الشعب الفلسطيني والشعوب العربية ...

في الظروف الحالية حيث تجتاح بعض دول المنطقة صراعات طائفية بعيدة عن برنامج التحرر الوطني تعمق الفرق بين الموقف العربي الرسمي وبين الموقف الشعبي العربي تجاه القضية الفلسطينية فبينما تتهافت دول عربية عديدة لتطبيع العلاقة مع الكيان الصهيوني والتي لم تعد سرا كما كان يحدث في الماضي وآخرها كانت زيارة ألوفد السعودي إلى تل أبيب واجتماعه بأعضاء كنيست إسرائيليين وهو ما لم يكن متوقعا أن يحدث من بلد الحرمين الشريفين ومن نظام عربي تأسس على مذهبية دينية اسلامية سلفية متزمته متشددة وكذلك عن عزم دولة الإمارات العربية المتحدة على إجراء مناورات جوية حربية مشتركة مع الكيان الصهيوني التي تقام في الولايات المتحدة بينما يحدث هذا التفاهت من بعض الدول العربية في سياق حمى ظاهرة التطبيع الجارية مع الكيان الغاصب الذي ما زال يحتل الأرض ويهود المقدسات خاصة ما يجري من إستباحة يومية من قبل قطعان المستوطنين الصهاينة العنصريين للمسجد الأقصى ويرفض كل المبادرات السلمية بداية من المبادرة العربية للسلام التي أقرت في قمة بيروت عام 2002 إلى المبادرة الفرنسية التي يجري تسويقها الآن ...

بينما يحدث هذا التهافت العربي الرسمي نحو التطبيع في ظل هذا الصلف والتعنت الإسرائيلي نجد أن الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج ما زالت على موقفها القومي المبدئي الملتزم في رفضها لوجود هذا الكيان العدواني وعدم إعطائه صفة الشرعية ... 

في مصر بعد ابرام اتفاقية كامب ديفيد برعاية امريكية ظل السلام باردا بين الشعب المصري الذي قاوم التطبيع بكل مظاهره وبين الكيان الصهيوني وذلك على الرغم من حملات بعض الإعلاميين المصريين المتصهينيين المعروفين بعنصريتهم وانتمائهم الاقليمي المعادي لفكرة عروبة مصر لإثارة حفيظة الشعب المصري ضد القضية الفلسطينية وعلى الرغم ايضا من حرص الحكومات المصرية المتعاقبة في فترة رؤساء مصر من عهد السادات إلى هذا العهد الحالي عهد الرئيس السيسي على المحافظة على هذه الاتفاقية بل والعمل على تعزيزها في المجالين السياسي والأمني كما يحدث في هذه المرحلة .... 

ونفس الحال يحدث في الأردن الشقيق القطر العربي التؤم لفلسطين فقد ظل الشعب الأردني على علاقته القومية من القضية الفلسطينية رغم الخلافات السياسية الحادة بين النظام الملكي الهاشمي ومنظمة التحرير الفلسطينية على قضية التمثيل السياسي وكذلك على مسألة الوجود الفلسطيني الكبير في الأردن و التي وصلت هذه الخلافات بالطرفين إلى حد اشتعال احداث أيلول الأسود بين الجيش الأردني وقوات الثورة الفلسطينية فلم تؤثر هذه الخلافات على الموقف الشعبي الأردني من القضية الفلسطينية رغم محاولة توظيف هذا الصراع من قبل قوى إقليمية وقبلية فظل الالتزام بهذه القضية العربية قائما رغم التوصل بعد ذلك إلى اتفاقية وادي عربة بين المملكة الهاشمية والكيان ...

على مستوى الوسط الشعبي العربي ايضا هناك مواقف لأفراد عاديين وايضا من نخب سياسيه من مثقفين وكتاب ومفكرين ومن حركات وأحزاب سياسية و نقابات مهنية و منظمات مدنية وشخصيات رياضية ترفض كل هذه القوى التطبيع مع الإسرائيليين ويأتي في هذه الأيام اضراب أعضاء من الجبهة الشعبية التونسية تضامنا مع إضراب الرفيقين بلال الكايد وأحمد سعدات وآخرين من أسرى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين المضريبن في سجون الاحتلال الإسرائيلي كموقف نضالي بارز في هذه المرحلة التي تشهد تراجعا عربيا رسميا تجاه القضية الفلسطينية يؤكد على وحدة الكفاح العربي المشترك ضد الكيان الصهيوني وفي واقعة سياسية حدثت مؤخرا في أولمبياد ريو بالبرازيل لها دلالتها النضالية الكبيرة الموحية على قوة الرفض الشعبي العربي لدولة الكيان حيث رفض أعضاء الفريق الرياضي اللبناني الركوب في حافلة واحدة مع الفريق الرياضي الإسرائيلي واغلقوا باب الحافلة في وجوه اعضائه حتى لا يتمكنوا من الصعود اليها ..

هكذا تؤكد الجماهير العربية كل يوم وفي مناسبات عديدة على موقفها السياسي القومي تجاه كيان عدواني غاصب أقيم بتخطيط غربي استعماري في قلب الوطن العربي ملتزمة بذلك بقرارات مؤتمر القمة العربية في الخرطوم الذي عقد بعد هزيمة يونيو حزيران عام 67 والتي تنص على اللاءات الثلاث لا تفاوض لا صلح لا اعتراف بالكيان الصهيوني بينما أنظمة عربية لم تلتزم بهذه القرارات فقام بعضها بالاعتراف والصلح والأنظمة الاخري خاصة في منطقة الخليج العربي في طريقها للتفاوض الرسمي المعلن لإنهاء حالة العداء مع الكيان الصهيوني والدخول معه في تحالف أمني إقليمي وكل ذلك يشكل للاسف انتصارا باهراً للدبلوماسية الصهيونية التي استطاعت اخيرا في ظل التهميش للقضية الفلسطينية في سلم الاهتمام العربي والدولي من اختراق جدار الرفض العربي الرسمي.