عن اليسار ومقولات التجديد مرّة أخرى

حجم الخط

لماذا تكون القوى الدينية في الوطن العربي، المُحافظة والليبرالية وما بينها، أكثر قدرة على جذب واستيعاب الجيل الشاب بينما تفشل القوى القومية التقدمية واليسارية التي تدّعي - نظرياً- أنها أقرب إلى روح العصر والتطور والنهج العلمي وتتبنى مفاهيم ومقولات لا حصر لها عن التجديد والتغيير والديمقراطية والمساواة والتعددية ؟ ولم يقتصر الأمر على فشل اليسار في تجديد نفسه بل أصبحت أحزابه في معظمها قوى طاردًة للشباب وللأفكار الجديدة غير قادرة على الإنتاج النوعي في الإبداع الثقافيّ والفنيّ والفكريّ.

وما ينطبق على العجز في استيعاب الشباب - الذين نسميهم جسر التغيير والعبور إلى المستقبل - سيجري أيضا بالضرورة على الأطباء والمهندسين والعمال والفلاحين والطلبة والأكاديمين ومختلف الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية التي ينتمي اليها الشباب والتي لا ترى في اليسار خيارها الطوعي اليوم، نكاد نقول أن الطبقات العمالية الشعبية التي تسكن في آخر القاع الطبقي باتت هي الأخرى تجد في القوى الدينية المعبر الأقرب إليها الحامل لصوتها وتُشّكل في بعض الأحيان قلعتها وحصنها الوحيد والأخير؟! .

يقول الأديب الشهيد غسان كنفاني" إن هذا العصر يشهد ظاهرة فريدة من نوعها وهي أن الغالبية الساحقة من العناصر التي تُشّكل جسد المجتمع العلمي والتكنولوجي هي غالبية شابة. وهذه الظاهرة نتاج حتمي لسرعة حركة التطور. فإذا طبقنا هذه القاعدة على مجتمعنا الذي يشهد سرعة مضاعفة في حركة التطور رأينا ببساطة كم هي خطيرة وأساسية المشكلة التي يواجهها " ([1]وما ذكره كنفاني حول العصر والشباب والتقنية والمشاركة الشعبية لا يزال يُشّكل أرضية صالحة ومدخلاً صحيحاً للحوار المطلوب حول اليسار وضرورة التجديد.

على قوى اليسار العربي أن لا تتعجل أمرها في الجواب السريع على هذه الاسئلة وتصدر الفتاوي الفكرية والنظرية الجاهزة كما تعودت طوال العقود الأخيرة؛ فالمشهد مركب وأكثر صعوبة مما نعتقد، ولا أن تُلقي الإتهامات الجاهزة على الزعيم الفلاني أو " القيادة " الفلانية، وتحملها مسؤولية الفشل، أو تبرر عجزها وقصورها بتهويل قدرة الأعداء والخصوم وقلة الامكانيات الذاتية، فهذه التبريرات والمسوغات قد تكون جزء من الصورة لكنها لا تعكس الحقائق وقد جرى استنفاذها كلها تقريباً.

وهناك منظومة متكاملة من التبريرات لا تُشّكل قوة دفع في التغيير المطلوب، صار لابد من مواجهة شروط الواقع، كما هي، والحصول على " الجواب " من داخل اليسار نفسه ومن المجتمعات التي نشأ ويناضل فيها ويسعى لتغييرها، ومن اتصاله مع حركة التغيير على المستوى الكوني. وعدم الاكتفاء بالشق النظري المحلي دون ترجمته إلى سياسات وأفعال على أرض الواقع والحياة.

وأخيراً، يجب ألا تركن أحزاب اليسار إلى رصيدها التاريخيّ الكفاحيّ والذي صنعته نضالات طويلة كبرى وأجيال سابقة. إن أحزاب اليسار في ممارساتها الرّاهنة تسئ إلى هذا التاريخ وتأكل من هذا الرصيد وتصادره يوما وتعيش عليه، ومع الوقت بدأ يتحّول تدريجياً إلى عبئ على واقع قيادي مترهل عديم الكفاءة وشريحة تحتكر موقع القيادة وفقدت القدرة على الابتكار والخيال والتجديد تقف عاجزة أمام أسئلة الحاضر وتعقيداته الرّاهنة والاستثنائية؛ فكيف يصدق الشباب الفلسطيني والعربي خطابات اليسار التقليدي عن " الحرية " و " الديمقراطية " و " المساواة  " وهو يرى أن حزب يساري يريد تغيير العالم و تحرير فلسطين بينما يستنقع أمينه العام في موقعه نصف قرن من الزمن؟.

هناك أعضاء في المكاتب السياسية للأحزاب اليسارية العربية مضى على وجودها عشرات السنوات في مواقعهم ومكاتبهم حتى باتت عناوين للتندر والنكتة من قبل أنصارها وجمهورها. لك أن تتخيل ماذا تقول عنهم الجماهير الشعبية!  !

وكيف يصدق الشباب العربي مقولات وشعارات اليسار عن التجديد وهو يرى هذا التكلّس والجمود في الخطاب السياسي الاجتماعي وتقادم كل حوامله الاجتماعية وبرامجه وشعاراته السياسية؟

هذا الصدأ المتراكم لسنوات طويلة في آليات عمل وبرامج اليسار والذي يجتر ويكرر نفسه هو أحد أكبر الكوابح والمعيقات التي تحول دون اقلاع عجلة التغيير. من يرفضوا التغير الثوري، في الداخل، لن يغيروا أي شئ في المجتمع أو في المحيط والخارج.

وكيف يصدق الشباب العربي قوى اليسار ومقولاتها – الصحيحة والخاطئة -عن التحرر الوطني والاجتماعي وهو يرى أن معظم هذه القوى لا تشارك في المقاومة الشعبية والمسلحة في مواجهة الاستعمار والاحتلال الصهيوني؟

إن بعضها يشارك في لعبة طائفية قذرة وحروب صغيرة لتجزئة المجتمعات والدول، وأخرى تساهم في تشريع أنظمة ملكية والحكم الرجعي التابع للامبريالية؟ وهناك يسار فلسطيني وعربي اليوم يقف على يمين اليمين. فلا يكفي أن تُسمي نفسك يسارياً لتنتمي الى معسكر اليسار.

لقد ناضلت القوى والأحزاب الشيوعية والقومية التقدمية وقدمت تضحيات كبيرة في مواجهة الاستعمار والاحتلال والرجعيات العربية ولكنها فقدت دورها منذ أربعة عقود على الأقل قبل انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، وعاشت قوى اليسار العربي حالة من " الحوارات " منذ العام 1990 لكنها بدل أن تتقدم تراجعت، لأن الحوار ظل حبيس الغرف والجدران، ولم يدخل عليه أي هواء جديد أو اكسجين فاختنق.

 طريق التغيير يبدأ من الذات أولاً:

إن الفكرة التي تقول " لا يغير الله في قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " فكرة صالحة في جوهرها والبدء بعملية المكاشفة التاريخية التي أساسها ممارسة ثورية للنقد الذاتي، من خلال قراءة علمية حازمة وجادة للتاريخ والأحداث والتطورات والتصالح مع الحقائق التي انتجتها التجربة المعاشة في الواقع.  

وما نسميه " النقد الذاتي " ليس المقصود منه جلد الذات والتباكي والعويل، ولا التبرير والتنظير الهش للفشل. إن ممارسة النقد الذاتي مسألة تتجاوز المفهوم النظري إلى إنتاج ما هو عملي على شكل إجراءات حقيقية ثورية وقرارات سياسية ومناهج عمل تجد ترجمة لها في المصانع والجامعات والشوارع والنقابات والجمعيات والمؤسسات الثقافية والمسرح ومراكز البحث العلمي ومعسكرات التدريب على السلاح.

كما أن تحديد الأولويات الوطنية والقومية والوصول إليها يأتي من خلال أعلى درجة من المشاركة الشعبية والحزبية في هذا الحوار الداخلي تضمن تجدد آليات ديمقراطية وتحديد هذه الأولويات والشعارات السياسية والنضالية الناظمة لهذا الحزب أو ذاك في كل مرحلة من مراحل النضال.

وبالقدر نفسه مطلوب من الشباب اليساري أن يعيد قراءة التاريخ والتجارب الكفاحية وفق رؤية ثورية واقعية، فلا يهدم الماضي، إن النقد معولاً للبناء وليس للهدم فقط.    

الجواب على كل هذه الأسئلة موجود في واقعنا نفسه، وفي أحوال اليسار العربي ذاته، وفي أحلام قواعده المناضلة وليس عند قيادته الراهنة او حتى في الكتب، وهذا الشباب اليساري الجذري ضاق ذرعاً بحالة الموت السرّيري التي تعيشها أحزابه الهشة الضعيفة، عليه اليوم أن يتقدم بثقة ممسكاً على الأصيل الجوهري في تجربة الشعب وحركته الكفاحية وفي ترابط حركة النضال العربي لمواجهة الهجمة الامبريالية والصهيونية والرجعية على شعوبنا وعلى جوهر الحكمة الصينية القديمة التي تقول: "من لا يتجدد يتبدد".

(انتهى)

 

 [1] ندوة عن التغير واللغة العمياء. كنفاني اذار 1968 - ص 8 منشورات الهدف