اتصال ترامب وعقلية المراهنة على السياسة الأمريكية

حجم الخط

بعد الاتصال الهاتفي الذي جرى بعد طول انتظار بين الرئيس محمود عباس والرئيس الأمريكي دونالد ترامب والذي تم خلاله توجيه الدعوة للرئيس الفلسطيني الى زيارة البيت الأبيض أسوة بدعوة رئيس الوزراء “الإسرائيلي” بنيامين نتنياهو، عادت مرة أخرى في بعض وسائل الإعلام العربية من قبل كتاب ومنظري تيار الواقعية السياسية في الفكر السياسي العربي موجة المراهنة على الدور السياسي الأمريكي في الوصول إلى تسوية سياسية شاملة للقضية الفلسطينية وذلك بعد الشعور بخيبة الأمل التي سادت في الأوساط العربية والدولية من موقف الإدارة الأمريكية الجديدة من مشروع حل الدولتين الذي تم التخلي عنه باعتباره ليس المشروع الوحيد للتسوية.

عقلية المراهنة على السياسة الأمريكية للوصول إلى تسوية سلمية عادلة للصراع العربي الصهيوني ليست هي في الحقيقة مراهنة جديدة في الأوساط الرسمية العربية فهي تاريخيا تترافق دائما مع سياسة التعنت والصلف “الإسرائيلية” كذلك هي أيضا لم تبارح صيغ الخطاب السياسي العربي الرسمي منذ وقف حرب أكتوبر عام 73 وبدء المفاوضات العسكرية بين الجانبين المصري و”الإسرائيلي” في الخيمة رقم 101 وأعقبها مباحثات سياسية أخرى برعاية امريكية توجت أخيرا بمعاهدة كامب ديفيد التي تم بموجبها اعتراف مصر بالكيان الصهيوني مقابل الإنسحاب من سيناء بترتيبات أمنية، ومنذ تلك الفترة الزمنية من الصراع العربي الصهيوني أصبح الشعار السائد في السياسة المصرية لإزالة آثار العدوان، هو  مقولة مشهورة تتردد: أن تسع وتسعين بالمائة من  الحل بيد أمريكا؛ وبتوقيع اتفاقية كامب ديفيد ثم اتفاقية وادي عربة بين الأردن والكيان الصهيوني وصولا إلى عقد اتفاقية أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية تكرست أكثر وتعمقت في السياسة العربية عقلية المراهنة على الدور السياسي الأمريكي، وكان ذلك يحدث في ظل اختلاف الإدارات الأمريكية والحكومات “الإسرائيلية” المتعاقبة رغم المواقف السياسية الأمريكية المعهودة والتعنت الإسرائيلي المتواصل والتي كانت دائما تميل فيها السياسة الأمريكية لصالح الكيان الصهيوني فضلا عن التحالف الاستراتيجي الذي تربطها معه وكل ذلك لم يمنع العقلية العربية من التحول عن هذا الاعتقاد السياسي السائد في كواليس السياسة والدبلوماسية العربية وذلك لسبب بسيط لم يعد له الآن أي ضرورة لاستمرار التمسك به وهو أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وانهيار المعسكر الاشتراكي النقيض الموضوعي للمعسكر الرأسمالي أصبحت هي القطب الأوحد الذي يهيمن على السياسة الدولية.

نصف قرن مر من الزمن على هزيمة يونيو/حزيران 67 الذي تم خلالها احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وأراض عربية أخرى، والطرف الفلسطيني الرسمي والعربي أيضا ما انفك يراهن على الدور السياسي الأمريكي الذي لم يحقق رغم كل المساعي السياسية وجولات المفاوضات المتعددة أي تقدم نوعي هام على طريق التسوية الشاملة، فالاحتلال الإسرائيلي ما زال جاثما في الضفة الغربية يمارس كل أنواع القمع والاستيطان، لم تتوقف حملاته في خطة توسعية تهويدية ممنهجة لتغيير الواقع الديموغرافي، والقضايا الجوهرية للصراع كقضيتي اللاجئين والقدس لم يشرع في التفاوض حولهما بعد كما نصت عليه اتفاقية أوسلو.

إذن السؤال الموضوعي الذي يجب طرحه أمام هذا الإخفاق السياسي الواضح للولايات المتحدة هو: ما جدوى المراهنة من جديد على الدور السياسي الأمريكي الذي يعرقل كل الأدوار السياسية الدولية التي تبذل من أجل الوصول إلى تسوية سياسية للصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”؟

يجيء اليوم الرئيس الأمريكي الجديد ترامب المولع بعقد الصفقات التجارية الكبرى باعتباره رجل الأعمال الكبير الناجح الذي وصل إلى سدة الرئاسة الأمريكية كمرشح عن الحزب الجمهوري المعروف بانحيازه الكبير للدولة العبرية، يجيء ترامب الأصولي المسيحي العنصري الذي توجه سياساته المصالح القومية الأمريكية الرأسمالية الكبرى، يجيء إلى البيت الأبيض وفي جعبته هذه المرة كما يشاع في وسائل الإعلام المختلفة صفقة سياسية تاريخية تتناسب مع صفته الجديدة كرئيس، لحل الصراع الفلسطيني “الإسرائيلي”، تبدأ اولا بمساع جديدة لعملية سلام متعثرة مأزومة .. صفقة سياسية غامضة لم تتضح معالمها الرئيسية بعد لكنها تجيء في وقت يكثر الحديث فيه الآن عن حل إقليمي للقضية الفلسطينية .. حل لا بد أنه يحقق رغبة الكيان الصهيوني في التخلص من المشروع الوطني الفلسطيني لأنه يتجاوز شرعية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، والموقف الوطني الصحيح إزاء هذا المشروع الاقليمي وغيره من المشاريع التي تطرح الآن وبعد تجربة من المفاوضات عقيمة وبرعاية أمريكية أساسا استمرت زهاء ما يقارب ربع قرن استثمرها الكيان الصهيوني بأسلوب المراوغة والمماطلة في نهب الأرض بإقامة المزيد من المستوطنات لتغيير الواقع الديموغرافي بهدف إعاقة قيام دولة فلسطينية مستقلة مترابطة الأجزاء.

الموقف الوطني الفلسطيني الرسمي الصحيح يستدعي الآن عدم المراهنة على أي دور أمريكي جديد يقوم على أساس غطاء الصفقة التاريخية الإقليمية، لأن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني هي حقوق معروفة ثابتة لها مرجعيتها الدولية متمثلة بقرارات الأمم المتحدة ولا تخضع لقانون الصفقات الذي يشتمل على إمكانية الربح والخسارة، كذلك الموقف الوطني والقومي الصحيح يستدعي إضافة إلى ذلك، التخلص نهائيا من عقلية المراهنة على السياسة الأميركية والتطلع بدلا من ذلك إلى دور دولي يضم الأطراف الدولية الكبرى التي أصبحت تنازع الولايات المتحدة على تحقيق تسويات للأزمات الإقليمية والدولية التي تعصف بالعالم، فقد مضى عصر القطب الأمريكي الأوحد الذي كان يهيمن على السياسات الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة بزوال القطبية الثنائية وظهر اليوم كما هو واضح في الواقع السياسي الدولي أقطاب جدد ينازعون واشنطن على المسرح العالمي كروسيا الاتحادية التي ورثت الاتحاد السوفييتي السابق والاتحاد الأوروبي والصين ويكفي المراهنة على الدور الأمريكي الاحتكاري الذي أخذ فرصته والذي ثبت فشله وإدراك الحقيقة الكبرى الماثلة من سير الأحداث والوقائع السياسية والاقتصادية والعسكرية وهي التي تقرر أن الولايات المتحدة الأمريكية هي “إسرائيل” بعينها، فكلتا الدولتين قامتا في الأصل على أساس عملية استعمارية اجلائية قائمة على   اغتصاب الأرض بشكل استيطاني عدواني وطرد السكان الأصليين منها.