كوريا: حرب التّاريخ

حجم الخط

 هناك الكثير مما هو مشترك بين تجربتنا كعرب وبين ما جرى في شبه الجزيرة الكورية خلال هذا القرن. مثلما تمّ رسم الحدود في العديد من دول المنطقة، حصل التّقسيم بين الكوريتين بشكلٍ شبه اعتباطيّ، في اجتماعٍ دام أقلّ من ساعتين بين ضابطٍ أميركي وآخر سوفياتي برتبة كولونيل عام 1945، ولم يكن أحدٌ منهما يعرف شيئاً عن كوريا (هم أتوا الى شبه الجزيرة لمحاربة اليابان، بل إنّ الجيش السوفياتي، بحسب أندري لانكوف، لم يكن قادراً في المرحلة الأولى حتّى على التّفاهم مع السكان المحليين، إذ أحضر معه حصراً مترجمين للغة اليابانية).

في تلك الفترة المتاخّرة من الحرب العالمية الثانية، لم تكن الحرب الباردة قد ابتدأت بعد، والسوفيات والأميركيون يحرصون على صون التفاهمات واحترام مناطق النفوذ التي تمّ الاتّفاق عليها وعدم التصادم ببعض، فدفعت كوريا الثمن وقسّمت الى جزئين.
 على الخريطة، قد تكون «القسمة» بدت منطقية بالنسبة الى الضّبّاط الذين قرروا مصير البلد، فالشطران يبدوان متساويين في الحجم. ولكن، في الواقع، كان التقسيم يجافي كلّ الضرورات التاريخية والبشرية والاقتصادية. سكّان كوريا الجنوبية يفوقون بمرّتين عدد السكان في الشمال، ومع أنّ الشمال يحوي موارد معدنيّة وفحماً حجريّاً، الّا أنّه جبليّ ذو مناخٍ بارد، يفتقر الى السهول الزراعية الموجودة في الجنوب، وليس في وسعه اتّباع سياسة تنمية زراعية، وهو يقدر بالكاد على انتاج كفايته من الغذاء (لهذا السّبب اضطرّ الكوريّون في الشّمال، منذ انشاء دولتهم، الى الخوض في التصنيع الثقيل والتمدين فيما ظلّت كوريا الجنوبية، حتى السبعينيات، مجتمعاً زراعياً أساساً). إنّ فصل بيونغيانغ عن سوول وتقسيم أمّةٍ لم تعرف الحدود لأكثر من ألف سنة لا يختلف كثيراً، في سياقه وفي تأثيره التاريخي، عن الحالة العربية، حين قُسّمت بلادنا ــــ مثلاً ــــ بشكلٍ يجعل الموصل وحلب وطرابلس منعزلةً عن بعضها البعض، ثمّ قيل لنا: والآن ابنوا دولاً صناعية مكتفية!
 بل أنّ السّوفيات انتبهوا، حين «اضطروا» لإنشاء دولةٍ في الشطر الشمالي، الى أنّ شمال كوريا ليس فيه شيوعيّون. فأغلب الناشطين اليساريين والمثقفين الشيوعيين في تلك الحقبة كانوا متمركزين في سوول، التي أصبحت في النطاق الأميركي، فيما المجتمع الكوري في الشمال مكوّن من مزارعين فقراء يعيشون على الكفاف، وطبقة صغيرة من الملّاك الكبار. اضطرّ الرّوس والصينيّون يومها الى اجراء «لمّة» أممية لإحضار ما يكفي من الكوادر الشيوعية لبناء دولة: بحث السوفيات في بلادهم عن الناشطين الذين يتحدّرون من أصلٍ كوري وأرسلوهم الى بيونغيانغ، جمع الصينيون عدداً كبيراً من أعضاء الحزب الشيوعي الصيني من الاثنية الكورية، بل إنّ العديد من الأميركيين الشيوعيين ــــ خاصة من ولايات الجنوب الأميركي ــــ هربوا من حملة الاضطهاد التي كانت قائمة يومها وأُرسلوا الى آسيا وساهموا في بناء الدولة الجديدة. إضافة الى هؤلاء، كانت هناك بقايا المقاومة الكوريّة، التي حاولت مجابهة الاحتلال الياباني في حربٍ يائسة وفرّ من تبقّى منها الى المنفى في اوائل الأربعينيات؛ وهؤلاء كانوا من أوّل العائدين الى البلد مع طلائع الجيش السوفياتي، وكان على رأسهم كيم ايل سونغ.

ضريبة الماضي

حين تقرأ عن تاريخ كوريا، تكتشف أنّ نظرية «الاستعمار الياباني الحميد» التي يعتمدها جناحٌ من الباحثين في العلوم السياسية (مثل تشالمرز جونسون وبروس كمنغز) لتفسير نجاح وقوّة وفعالية الدّول الآسيوية (ككوريا الجنوبية وتايوان وماليزيا) ليس دقيقاً بالكامل. النظرية تحاجج بأنّ الاحتلال الياباني لهذه الأقاليم قد أورثها ادارة بيروقراطية كفوءة؛ فاليابانيون، على عكس الاستعمار الأوروبي، كانوا يرفعون شعار «الوحدة الآسيوية» ويستثمرون في الكوادر المحلية ويعتمدون عليها في الإدارة. هذه النّخب التي تعلّمت وتدرّبت ضمن النظام الياباني استلمت الحكم بعد الحرب العالمية الثانية، اذاً، وهي متشبّعة بتقليد إدارةٍ راسخٍ وحديث.
 في حالة كوريا، أقلّه، تراث الدّولة أقدم من ذلك بكثير، وهو يشبه الى حدّ بعيد الإدارة الصينية: كما في الصين الكونفوشيوسية، أسّست السلالات الكورية المتعاقبة نظاماً وطنياً للاختبارات يحدّد من يدخل الى البيروقراطية وينضمّ الى طبقة «أبناء الدولة» المحظية. لو أردت أن تكون موظّفاً كبيراً أو ضابطاً في الجيش في القرن السابع عشر، فإنّ عليك اجتياز سلسلة امتحانات تنافسية، مكتوبة وشفوية، تثبت عبرها اجتهادك وموهبتك (وايمانك ومعرفتك بالكونفوشيوسية). وقد استمرّت هذه المنهجيّة في انتقاء النّخب وتجديدها لأكثر من عشرة قرون. في مجتمعٍ زراعيّ آسيوي ككوريا، كان التقسيم الطبقي ــــ تاريخياً ــــ واضحاً وقاسياً. بين فئة الحكام والنبلاء الملاكين (وهي أقلية صغيرة جداً) وفئة الفلاحين الفقراء لا يوجد الا طبقة البيروقراطيين والضبّاط. وحتّى ترتقي وتنتمي الى «برجوازية الدولة» هذه، فقد كان الطريق هو عبر اثبات اجتهادك وولائك وموهبتك، والنجاح في الإنضمام الى جهاز الحكم؛ ومن المتوقّع منك ومن الجميع انضباطاً عالياً وأن لا تحاول تجاوز موقعك «الطبيعي» في المجتمع. العديد من الباحثين الذين يعرفون كوريا يشيرون الى أنّ هذه التّقاليد التاريخية والثقافية قد تساهم في شرح ظواهر في المجتمع، والعقلية الجماعية، والعلاقة مع السلطة، أكثر من النظرية الماركسية أو فكرة التنظيم الستاليني (وفلسفة «جوتشيه» التي ابتدعها كيم ايل سونغ في الستينيات، وهي ــــ نظرياً ــــ تسيّر البلد الى اليوم، ليست ماركسيّة فعلاً، ولا هي حتى تلتزم بالاشتراكية كهدف نهائي. بل هي عبارةٌ عن تأملات فلسفية «كورية» الطابع عن الفرد والجماعة والخير والشر ومفهوم الحياة الجيدة). على الهامش، الطريف هنا هو أنّ بعض هذه العادات «الثقافيّة» ذاتها، كتقريع المدير لنفسه علناً حين يخطىء أو تقديم الفرد على الجماعة، حين يراها الجمهور العالمي في كوريا الجنوبية، فهو ينظر اليها بإعجاب كمثالٍ على النزاهةٍ والجدّيةٍ وأخلاقيات العمل، أما في كوريا الشمالية، فهي توصف بسخرية على أنها تصرّفات روبوتية وتوتاليتارية.
 في الوقت نفسه، فإنّ تاريخ شبه الجزيرة الكورية يعجّ بالصراع مع الهيمنة الخارجية والغزوات، سواء من منشوريا الصينية أم من اليابان، والدولة تمرّ بمراحل هيمنة أجنبية، يصبح الملك فيها مجرّد بيدق، وبين مراحل تشدّد وانعزالٍ عن العالم. كانت كوريا غالباً أوّل هدفٍِ لليابان حين تتوسّع، وتجد النفوذ الخارجي يصل الى مرحلة يغتال فيها العملاء اليابانيون ملكاً كورياً لأنّه ينحو نحو سياسات استقلالية (الامبراطورة مِن في أواخر القرن التاسع عشر). ولكنّ لا شيء من هذا يقارن بالعنف الذي مارسته الولايات المتحدة على كوريا (بشطريها). منذ تقسيم البلد والحكومتان لا تعترفان ببعضهما، العاصمة «الدستورية» لكوريا الشمالية هي مدينة سوول وكوريا الجنوبية لا تزال، الى اليوم، تعيّن «حكّاماً» للمحافظات الشمالية، مع مكاتب ومعاونين وكلّ المظاهر. عام 1950، قرّر كيم ايل سونغ توحيد البلاد بالقوّة، وراهن على أنّ الحرب ستكون قصيرة وناجحة، وهو كان محقّاً، اذ سيطرت قواته على 95% من كوريا الجنوبية خلال أسابيع قليلة (ببساطة، لم يقاتل أحد لصالح النظام في الجنوب، الذي كان يشهد أصلاً حرب غوارٍ شرسة ضد الحكومة). ثمّ تدخّلت اميركا وتحوّلت الحرب في كوريا الى صراعٍ دولي، خرج منه البلد مدمّراً بالكامل، ولكنه لم يهزم.
 ألقى الطيران الأميركي على كوريا (بشطريها) كمية من المتفجرات تفوق تلك التي استخدمها ضد اليابان طوال الحرب العالمية الثانية. ضربت أميركا كوريا بأكثر من 18 ألف طن من النابالم الحارق (أي بمعدّل يقارب كيلوغراماً من النابالم لكل مواطن كوري)، وحين لم تعد هناك أهدافٌ عسكرية يمكن أن تُضرب، بدأ الطيران الاميركي ــــ فيما الجيش يتقدّم شمالاً ــــ بتدمير المدن الرئيسية، ثم المدن الثانوية، والمصانع والطرقات، وكلّ البنى التحتية التي خلّفها اليابانيّون. ردّ الصينيون على التدخّل الأميركي بالدخول في الحرب وإرسال ملايين المتطوعين الى كوريا، ولم يدخل الاتحاد السوفياتي الحرب مباشرة (وهي مسألة خلقت حزازةً لدى كيم ايل سونغ ضدّ الرّوس، وخيبة لم ينسها أبداً). نجح الصينيون والكوريون في دفع جيش التحالف جنوباً من جديد، في ما يشبه معجزةً عسكرية وسط سيطرة جوية كاملة للأميركيين؛ بل تمكنت القوات الشيوعية، التي كانت تتحرك في الليل وتقاتل على طريقة حرب الغوار ولكن بأعدادٍ ضخمة، من محاصرة وحداتٍ أميركية كبيرة وكادت أن تدمّرها بالكامل. انتهت الحرب بالعودة، تماماً، الى خطّ التقسيم الأصلي، وقد وقّعت كوريا الشمالية معاهدة وقف اطلاق النار (وليس السلام) مع الحكومة الأميركية وحدها، من دون تمثيلٍ لكوريا الجنوبية. صنعت حرب كوريا كيم ايل سونغ زعيماً أوحد للبلد، وتولّى هو والشباب الذين انضمّوا الى الحزب خلال الحرب وقاتلوا معه، فعلياً، قيادة الحزب والدولة. أغلبهم، بالمناسبة، لم يكن يحمل شهادةً مدرسية حتى، بل كانوا أبناء مزارعين فقراء عاشوا لأجيالٍ في ظلّ الجوع، ولكنهم كوّنوا النخبة التي بنت كوريا الشمالية وحكمتها حتى ثمانينيات القرن العشرين.

«المسيرة الصعبة»

على المستوى الاقتصادي، كانت كوريا الشمالية، حتى أواخر السبعينيات، أكثر نجاحاً من جارتها الجنوبية، رغم الفارق في الموارد والدعم الخارجي (حين تعرّضت كوريا الجنوبية لانهيار اقتصادي في الثمانينيات وأواخر التسعينيات، تمّ انقاذها عبر حزمة مساعداتٍ دولية، بلغت في الحالة الأخيرة عشرات مليارات الدولارات؛ أما كوريا الشمالية، حين ضربها الفيضان عام 1995، فقد تُركت لتجوع). ومع أنّ تباطؤ الاقتصاد في الشمال ابتدأ في الثمانينيات، الا أنّ الانهيار في مستوى الحياة في البلد لم يحصل الّا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. كانت كوريا تحصل على الوقود والماكينات والسلع التي لا يمكنها انتاجها من المعسكر الشرقي، مقابل سلعٍ كورية أو أرصدة بالعملة المحلية. منذ أواخر الثمانينيات، أصبحت الصين وروسيا ترفضان التصدير الى كوريا الشمالية الّا مقابل دفعاتٍ بالعملة الصعبة. ومع انهيار المعسكر السوفياتي، خسر البلد شركاءه التجاريين وعُزل في وقتٍ تحاصره فيه العقوبات الأميركية، وتمنع عنه تقريباً أي تعاملٍ خارجيّ بالدولار. ثمّ تلت ذلك الفيضانات عام 1995، التي لم تقم بتخريب المحاصيل ونسبةٍ كبيرة من الأرض الزراعية فحسب، بل دمّرت أكبر معامل الطاقة الهيدروليكية وبعض أهمّ مناجم الفحم في كوريا (فوقع البلد، إضافة الى المجاعة، في أزمة طاقة لم يخرج منها الى اليوم).
 خضع البلد لتسع سنواتٍ متتالية من النموّ السالب، وعانى الكثير من السكان من سوء التغذية (يقدّر عدد الذين ماتوا بسبب قلّة الغذاء بين 1996 و1999 بما بين 300 ألف ونصف مليون كوري). عاد الاقتصاد الكوري الى النموّ منذ أوائل الألفية، ولم يعد تأمين الغذاء أو الحاجات الأساسية هو الهمّ الأكبر للنظام، ولكن الخبراء يقولون إنّه، بعد سنوات طويلة من النموّ، فإنّ حجم الاقتصاد الكوري الشمالي اليوم قد عاد فحسب الى مستواه في الثمانينيات ــــ وقد جاءت العقوبات الدولية في السنوات الأخيرة لتزيد من تشديد الحصار.
 سنناقش في المقال القادم إمكانيات الحرب على كوريا، ولكن قد يكفي لشرح نظرة الكوريين الى المحتلّ الأميركي والى أرضهم، وطبيعة مجتمع الحرب الذي بنوه، حادثةٌ جرت في المنطقة المنزوعة السلاح عام 1976. كوريا معروفة بأنّها تملك حساسية من السلوك الفوقي للدول العظمى، سواء جاء من اميركا أو من الصين، وهي قامت بأعمالٍ لم تعتد عليها الدول الصغيرة في العالم الثالث في وجه الأقوياء، من نوع اسقاط طائرة تجسسٍ أميركية عليها عشرات الضباط عام 1969، أو أسر سفينة التجسّس «بويبلو» وهي خارج المياه الكورية (بمعنى أنّه: إن جئتم للتجسّس علينا، فإننا سنعتقلكم ولو خرجتم من مياهنا). في آب 1976 قُتل ضابطان أميركيان في المنطقة العازلة لأنّهما كانا ــــ مع فريقٍ مرافقٍ من الكوريين الجنوبيين ــــ يحاولون قطع شجرةٍ كانت تسدّ عليهم مدى النظر، وحصل اشتباكٌ بينهم وبين جنودٍ كوريين شماليين. الاشتباك كان يدوياً، اذ لم يكن أحدٌ من الطرفين يحمل سلاحاً، ويبدو أنّ الكوريين قد جرّدوا أعداءهم من الفؤوس والمعدّات التي جاءوا بها لقطع الشجرة وأداروها عليهم. تقول الشهادات إن الملازم الكوري الشمالي، باك تشول، جاء مع رفاقه الى الأميركيين وطلب منهم التوقّف عن العمل، فردّ عليه الضابط الأميركي بنبرة احتقار وتجاهله. حين كرّر باك طلبه للمرّة الثانية وأدار له الأميركي، ثانية، ظهره متجاهلاً، قام الملازم الكوري بخلع ساعة معصمه بكلّ هدوء، ثمّ غلّفها بمنديلٍ وضعه بعناية في جيب سترته، ثمّ صاح بأعلى صوته «اقتلوا أولاد الحرام!».

نقلا عن الاخبار اللبنانية