صندوق النقد في بلغراد: سقوط اوروبا الشرقيّة

حجم الخط

تعتمد الأمم أساليب طريفة في التأريخ لنفسها وتفسير ماضيها، وبخاصة على المستوى الشعبي، ومن الطبيعي أن ينحو الإنسان الى سرديّة تجعله «ضحية»، وتبرّر فشله وعجزه عبر تعداد ظلم الآخرين له، وتبالغ في التأثير السلبي لأفعال الآخرين والتأثير الايجابي لأفعاله هو (حتّى الأتراك والأميركيون لديهم سرديّة عن كونهم ضحايا للآخرين، وطيّبون أكثر مما يجب، ويتمّ استغلالهم وظلمهم بسبب حسن نواياهم).

الحقيقة هنا ثانوية الى حدّ بعيد وأنت تبني صورتك عن نفسك، تماماً كما يحصل حين «يخترع» الأفراد شخصيتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. على الهامش: لدى سلافوي جيجك نظرة فريدة الى هذا الموضوع والى مفهومنا عن «حقيقتنا» وشخصياتنا. هو يقول أنّه، حين تجد شخصاً عدائياً وبذيئاً على وسائل التواصل، وتحكمه عقد الدونية والفوقية، فلا تستمع لمن يخبرك بأنه «في الحقيقة» شخصٌ بسيطٌ ومتواضع ووديع، مثلاً؛ فالشخص الذليل والبسيط والخجول الذي يشيرون اليه في «الواقع» قد لا يكون «حقيقتك»، بل هو الشخصية التي أجبرك المجتمع على ارتدائها، أمّا حين تعبّر عن نفسك على وسائل التّواصل، فهذه هي أناك «الحقيقية»، تعبيرك الأصدق والحرّ عن نظرتك عن نفسك.

عودةً الى موضوعنا، أفهم أن يحتجّ أهل اوروبا الشرقية، الى اليوم، من الهيمنة السوفياتية عليهم طوال عقود ما بعد الحرب العالمية، وأن يتّهموا روسيا ــــ مثلاً ــــ بعرقلة تطورهم السياسي والديمقراطي. ولكن أن تسود نسخة من التّاريخ، يحملها الكثير من الأوكرانيين والبولنديين وغيرهم، عن أنّهم شعوبٌ «أوروبية» منعها «الاحتلال» السوفياتي من التقدّم وأخذ مكانها في العالم، فهذه أكثر من مبالغة. من دون عنصرية، ولكن أقاليم مثل غرب اوكرانيا وشرق البلقان والقوقاز لم تكن بالضّبط، في أي مرحلة من التاريخ، مناراتٍ للحضارة والتكنولوجيا، ومن الصّعب أن نصدّق أنّ جورجيا وبولندا وبلغاريا كانت ستصبح اليوم دولاً صناعيّة متقدّمة لولا أنّ المرحلة الاشتراكية «قمعتها» (وأعادت بناءها بعد الحرب، وأعطتها قاعدة صناعية وعلمية، وشعباً متعلّماً، ومدناً حقيقية، الخ).

حين تقرأ في التاريخ القريب لشرق اوروبا، تكتشف أن ماضي هذه المنطقة، والكثير من أحداثها اليوم، يجري طمسه بين سرديّات المنتصر الغربي، والأوهام القومية، وسياق اجتماعي واقتصادي مضطرب منذ نهاية الحرب الباردة. كلّ هذا جرى اختزاله في روايةٍ سائدة مقتضبة عن «ثورات» شعبيّة حصلت ــــ فجأةً ــــ في أواخر الثمانينيات، وأسقطت الأنظمة الشيوعية في دول حلف وارسو الستّ؛ وانتهى كلّ شيءٍ ودخلت المنطقة في عهدٍ ديمقراطيّ جديدٍ خلال أسابيع. هذه القصّة الرومانسيّة يصعب تصديقها مع مرور الزّمن، ليس فقط لأنّ الأحداث التي تلتها تناقضها (كما تقول الباحثة الفرنسية كاثرين ساماري في دراسةٍ عن الإصلاحات في شرق اوروبا، فإنّ شعوب هذه الدول، مثلاً، استخدمت الانتخابات الحرّة في أوائل التسعينيات لإعادة الكوادر الشيوعيين أنفسهم، الذين يفترض أن الشعوب قد «ثارت» عليهم، الى الحكم)، بل لأنّ ترتيب أحداث الماضي ينتج روايةً مختلفة. حين تضع انهيار أواخر الثمانينيات في سياقه التاريخي تكتشف، مثلاً، أنّ اوروبا الشرقية قد وقعت في أزمة دينٍ هائلة في السبعينيات، مع فتح باب الاقتراض من المصارف والحكومات الغربية. تكتشف ايضاً أنّ أوّل تجربة «إصلاحات بنيوية» و«تقشّف» يفرضها صندوق النقد الدولي في المرحلة النيوليبرالية لم تكن في بوليفيا، أو في دولةٍ افريقية، بل في يوغوسلافيا عام 1981، خلف «الستار الحديدي»، حين عجزت الحكومة عن دفع دينها الخارجي وأفلست (وتبعتها دولٌ أخرى). تكتشف أنّ الدّين وكلفته، والتقشّف والركود، كانت العناصر التي شكّلت الأزمة في أواخر الثمانينيات، وأسقطت الحكومات «الاشتراكية» وأوصلت، في حالة يوغوسلافيا، الى الحرب والاقتتال الاثني وتفتّت البلد.

أزمة الدَّين في شرق اوروبا

كما يقول كريس ميلر في كتابه عن الاقتصاد السوفياتي، فقد صعدت في السبعينيات موجة إعجابٍ بالتجربة الاقتصادية لدولٍ معيّنة في اوروبا الشرقية، كهنغاريا ويوغوسلافيا وبولندا، انفتحت على الغرب واختبر مواطنوها مستوىً استهلاكياً عالياً، وقد ساهم الاعلام الغربي في مديح تجربة هذه الدول التي ابتعدت عن النمط السوفياتي وأوجدت «توازناً» مثالياً بين الاشتراكية واقتصاد السّوق.

المشكلة كانت في أنّ هذا الإزدهار الظّاهري قد بني، على عكس النموّ في الخمسينيات والستينيات، على الاستدانة من المصارف الغربية واعتمادٍ متزايدٍ على الاستيراد. كما هو معروفٌ، كانت المصارف الغربية بعد عام 1973 ملأى بعائدات النفط، وتبحث عن قنواتٍ لتصريف هذه الرساميل، فلجأت الى إقراض الحكومات في جنوب اميركا والمكسيك، وفي اوروبا الشرقية ايضاً ــــ حيث بدأ عهدٌ ظاهري من التقارب مع الغرب إثر تدشين مرحلة «التعايش السلمي» بين القوى العظمى في أوائل السبعينيات. استخدمت أنظمة حلف وارسو القروض الغربية لزيادة استقلالها عن موسكو، ولاستيراد معدّاتٍ وسلع استهلاك، والاستثمار في مشاريع طموحة (بل أنّ تشاوشِسكو قد جعل رومانيا، عام 1971، عضواً كاملاً في صندوق النقد الدولي). وقد راهن هؤلاء القادة على أنّ فتح باب التصدير الى اوروبا الغربية سيدرّ عليهم عملةً صعبة، تسمح بدفع الديون وتحقيق المزيد من الاستيراد والنموّ في المستقبل.

ما لم يتحسّب له هؤلاء هو أنّ الاستدانة قد ترافقت مع الأزمة الاقتصادية في الغرب، فحلّ الرّكود وانحسر الاستيراد في أواسط السبعينيات، وارتفعت معدّلات الفائدة بشكلٍ صاروخيّ. أصبحت حكومات اوروبا الشرقية تنوء تحت عبء دينٍ بالعملة الصعبة يتضخّم بتسارعٍ شديد، حتّى وصل (في أوائل الثمانينيات) الى أكثر من عشرين مليار دولار في يوغوسلافيا، و24 مليار دولار في بولندا، وحوالي عشرة مليارات دولار في رومانيا والمانيا الشرقية (للمقارنة، كان كامل الدين الخارجي للاتحاد السوفياتي، في الفترة ذاتها، يبلغ أقل من 12 مليار دولار). يقول كتابٌ نشره صندوق النقد الدولي عن تاريخه عام 2001 أنّ كلفة الدّين بالدّولار الذي تحمّلته هذه الدول قفز من معدّل فائدة 9 في المئة عام 1979 الى 16 في المئة عام 1981، وقد حصل هذا بالترافق مع ارتفاع أسعار النّفط، التي أثقلت على الميزان التجاري وضخّمت فاتورة الاستيراد.

القسم الأكبر من هذه الديون الهائلة لم يكن، حتّى، مالاً استلفته هذه الحكومات واستثمرته في بلادها، بل متأخّراتٍ وغرامات، لعجز الحكومات عن تجديد ديونها أو دفع تلك المستحقّة، وفوائد على فوائد الديون (وهي حالةٌ يمكن تشبيهها بتطور الدين العام في لبنان). ترتّب على رومانيا في اواخر 1981 أكثر من مليار دولارٍ كقيمة لمتأخرات وغرامات للبنوك الأجنبية، تقول أرقام صندوق النقد الدولي. وكان مجمل الدين الخارجي الروماني عام 1976 أقلّ من نصف مليار دولار (بحسب مقالٍ للاقتصادي كورنيل بان)، تضخّم الى 10.4 مليار دولار بحلول عام 1981، وقد أصبح على رومانيا، فجأةً، أن تدفع فوائد سنوية قدرها ثلاثة مليارات دولار (بعد أن كانت خدمة الدين تكلّف أقل من 8 ملايين دولار قبل ذلك بست سنوات).

حين عجزت الحكومات عن الدّفع، بدأت أول موجة نيوليبرالية في اوروبا، قبل سقوط الستار الحديدي بسنوات. حركة «تضامن» في بولندا، مثلاً، كانت في أساسها حركةً عمّالية تحتجّ على إجراءات التقشّف، التي أجبر الدائنون الأجانب الحكومة على فرضها (أي بما يشابه حركات الاحتجاج في اليونان واسبانيا في السنوات الأخيرة، والمطلب كان زيادة دور الدولة وخدماتها، وليس حلّ الاشتراكية). في يوغوسلافيا، التي سارت على خطّ التبادل مع الغرب باكراً، فهي قد تحوّلت (تكتب الباحثة اندريا زيفكوفيتس) من أكثر دول العالم نموّاً في الستينيات، وأكثرها اعتماداً على الابداع التقني، الى أقلّ الدول تسجيلاً لبراءات الاختراع بحلول الثمانينيات. أصبحت المصانع اليوغوسلافية تنتج لصالح شركات اوروبية، وتشتري منها رخصاً لانتاج السلع، من دون أن يحقّ لليوغوسلاف امتلاك التقنية أو تعديلها، فتجمّد النموّ في انتاجية العمّال. كما تفسّر زيفكوفيتس، بدلاً من أن تنافس يوغوسلافيا عبر التكنولوجيا، أصبحت تنافس عبر خفض أجور العمّال (بل أنّ الحكومة بدأت، حرفياً، بتصدير عمّالها الى اوروبا الغربية بغية الحصول على العملة الصعبة). ولكنّ الأثر الأخطر لهذه التطوّرات كان على المستوى السياسي، اذ ترافق التقشّف مع زيادة قمع الدولة، سواء ضدّ العمّال المحتجّين أو ضدّ المناطق الطرفية (مثل كوسوفو) التي ضاعفت سياسات صندوق النقد من حرمانها.

النّظام الفيديرالي اليوغوسلافي، الذي لم يستقرّ يوماً في كلّ الأحوال، وقد ظلّت مصالح الجمهوريّات الاثنية فيه متضاربة منذ توحيد البلاد، فجّرته الأزمة الاقتصاديّة. كان من الصّعب، منذ الخمسينيات، إقناع الجمهوريات الثرية في الشمال الغربي (سلوفينيا وكرواتيا) بالتعاون مع باقي الاتحاد، وكان السلوفينيون يحتجّون على أيّ إجراء فيديراليّ لتحقيق تنمية عادلة باعتباره «نزعة مركزية» مرفوضة. أمّا بعد أزمة الدين، فقد تجاهلت سلوفينيا كليّاً قواعد الاتّحاد، وانفصلت عنه اقتصادياً بالمعنى العملي، وبدأ باقي البلد بالانحدار صوب التفكك والحرب الأهلية (حين تستمع الى آراء سلافوي جيجك ــــ السيئة ــــ عن بلده الأصلي يوغوسلافيا، يجب أن تتذكر أنه سلوفيني).

تشاوشِسكو

يمكن القول بأنّ نيقولاي تشاوشسكو، الديكتاتور الروماني الأخير الذي تحوّل الى رمزٍ لـ«الطاغية» الذي أسقطته الثورات الأوروبية، قد «ظُلم» في الإعلام وفي مرويات التاريخ. تشاوشسكو لم يكن ديمقراطياً، هذا صحيح، ولكنّه ايضاً لم يكن مجرماً قاتلاً أو فاسداً يسرق أموال شعبه، كما قدّمته السردية الرائجة. نحن نعلم اليوم أنّ «المجازر» التي قال الإعلام الغربي ــــ وقتها ــــ إنها تجري في مدينة تيميشوارا لم تحصل، وأن «صوت اميركا» و«بي بي سي» ضخّمتا الأحداث وتكلّمتا عن مشاهد مرعبة ومئات (أو آلاف) من الضحايا لم يسقطوا ــــ وإن كانت هذه التقارير هي التي أدّت الى الاحتجاجات الكبرى في بوخارست. نحن نعرف ايضاً، بسبب التحقيق الذي أجري بعد إعدام تشاوشسكو، أنّه لم تثبت عليه شخصياً أو على أفراد عائلته أي تهم فسادٍ أو إثراء أو رشاوى أو استغلال نفوذ. حتّى المجموعة الفنيّة التي يمتلكها ابنه الأكبر، وهو كان ــــ مثل أخته ــــ باحثاً أكاديمياً مرموقاً، والتي جرت حولها الكثير من الشائعات والأقاويل، أثبت التحقيق لاحقاً أنه اشترى كلّ قطعةٍ فيها بنفسه وبشكلٍ شرعيّ، ومع ذلك صادرتها الحكومة ولم ترجعها اليه حتى اليوم.

ما جرى هو أنّ تشاوشسكو، بعد أن نهل من القروض الغربيّة، أُصيب بالذّعر حين لمس كلفة الاستدانة، وفهم أن المؤسسات المالية ستحكم اقتصاده بالوكالة، فقام بردّ فعلٍ جذريّ وعنيف. أقرّ تشاوشسكو خطّةً لإطفاء الديون بكاملها خلال أقلّ من عشر سنوات، والتوقف النهائي بعد ذلك عن الاقتراض؛ وأجبر الشعب في رومانيا على مرحلة تقشّف قاسية استمرّت طوال الثمانينيات. كان يجري تقنين الغذاء للناس حتى يتمّ تصدير ما أمكن من الانتاج الروماني الى الخارج ودفع القروض. بتعبير أكاديمي أميركي، حاول تشاوشسكو أن يسدّد الديون على ظهر شعبه، وهذا كان مصدر الاحتجاج؛ ثمّ قرّرت ثلّة من العسكريين التخلّص منه حين وصلت التظاهرات الى حافة الغليان وأصيب النظام بالذّعر. كما يحكم فلاديمير كوريتشيا في دراسته عن البلقان، فإنّ هؤلاء الحكّام لم يكونوا ديكتاتوريين عسكريين عنيفين، ولا حتّى شيوعيين ثوريين، بل هم أساساً كوادر بيروقراطية تحمل نظرةً أبوية فوقية الى المجتمع، وتفترض أن مهمّتها هي في تحديث وتحضير هذه الدّول (أي نخبة «تنويرية» بالمعنى الكلاسيكي). قل ما شئت عن تشاوشسكو، ولكنّ نظامه بنى في رومانيا (أكثر أقاليم اوروبا تخلّفاً)، نظاماً للتنمية نجح لعقودٍ، وجامعات ومراكز علميّة وطبيّة على مستوى عالٍ، وأمّة متعلّمة واثقة من نفسها (كان الرومانيون، الى جانب الكوريين الشماليين، ملوك الاستعراضات الجماعية والفنية في الساحات والملاعب). المقارنة مع المرحلة «الليبرالية» هي قضية أخرى. ولكنّ المفارقة التراجيديّة في قصّة تشاوشسكو هي أنّ الشعب قد فاض كيله، ولم يعد يحتمل التقشّف، وأطاح به تحديداً في السّنة التي أتمّت رومانيا فيها دفع آخر قرشٍ من ديونها.