عن العنصرية في لبنان

حجم الخط

أتّفق مع الزميل محمّد نزّال، في مقاله الأخير على هذه الصفحات، في نفوره من الكليشيهات الجاهزة حول «العنصرية»، والاستخدام «الوعظي» لها كما أسماه (ورفضه للتعميم، طبعاً)؛ ولكنّي أختلف معه في أن يُقارب المسألة، كما يفعل من ينتقدهم، ضمن ثنائية بلد عنصريبلد غير عنصري.

نزّال يبحث، بتفاؤل، عن الجانب المشرق والخيّر في النّاس؛ ولكنّي حين أنظر الى مجتمعٍ ما، فأنا لا أفكّر فيما اذا كان هذا البلد «عنصرياً» أو «غير عنصري» بل أسأل: كيف هو عنصري؟ ولأي درجة؟ وبأية أشكال؟ والى أيّ حدٍّ هو واعٍ لعنصريته؟ (وهي القاعدة نفسها التي تحكم، عندي، العلاقة بين الأفراد والشرّ).

بدايةً، هناك تمييزٌ أساسيّ من الواجب تقديمه، فـ«العنصرية» ليست الّا شكلاً واحداً من أشكال التمييز، وهو يمكن أن يجري على أيّ مستوى: تمييز طبقيّ، بسبب المنشأ الجغرافي، بسبب الدين أو العقيدة، بسبب الجنس، الخ… وكلّها، مثل «العنصرية»، يمكن أن توصل الى الاضطهاد والعنف والقتل، وحتّى الإبادة (في مناطق في افريقيا، مثلاً، يجري اضطهاد المصابين بالبُهاق وقتلهم بسبب التّطيّر منهم). «العنصرية» تستخدم اليوم كـ«الدالّ الأعلى» (master signifier) لفكرة التمييز، دوناً عن باقي أشكاله، ببساطةٍ بسبب التجربة الاوروبية المعاصرة والهولوكوست، التي طبعت الذاكرة الغربية وحوّلت العنصريّة (أو أنماطاً محددة منها) الى «تابو» ــ لو حكمنا بمقاييس بلادنا وتاريخنا الوسيط والمعاصر، بالمقابل، فإنّ الكراهية الطائفية قد تكون مرشّحاً أجدر بهذا المنصب.

هذا التوضيح هو ليس للتخفيف من اضطهاد لبنان للاجئيه، سوريين وفلسطينيين، أو المحاججة بأن اللبنانيين «غير قادرين على أن يكونوا عنصريين» في وجه عربٍ مثلهم (أيّام جورج بوش، كان بعض المسؤولين من المحافظين الجدد، حين يُقال لهم أن كلامهم عن الاسلام عنصريّ يجيبون بأنّهم لا يمكن أن يكونوا «عنصريين» ضدّ الاسلام، فهو دينٌ وليس عرق)؛ بل هو يهدف ــ على العكس تماماً ــ الى توسيع فكرة «التمييز» وفهم أنّ أموراً مثل «الطائفية» و«العنصرية» و«القطريّة» و«الطبقيّة» ليست أقانيم منفصلة، تختلف نوعيّاً بعضها عن بعض، بل هي من طبيعةٍ واحدة. الطّائفية في لبنان ليست الّا شكلاً من أشكال العنصرية، يرفدها تمييزٌ اجتماعي وفصلٌ سكّاني ونظام انتخابي يقوم على التمييز؛ وقد وصلت هذه «الطائفية»، أيّام الحرب، الى درجة التقاتل والابادة، وقد بني نظامٌ سياسيّ كامل لتقنين هذه الحرب وإبقائها «باردة» في ما نسمّيه اليوم مرحلة «السلم» (لا حرب سوريا ولا حرب العراق تقارن بحرب لبنان في عنفها وحجم ضحاياها نسبةً الى عدد السكان، ونسبة اللبنانيين الذين قتلهم «مواطنوهم» خلال الحرب ــ وأكثرهم مدنيين ــ أقرب الى حالةٍ الاتحاد السوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية منها الى حروبنا المعاصرة).

في السنوات الأخيرة، حين اندلع نزاعٌ سياسيّ في لبنان بعد سنة 2005، أطلق قادة وإعلام 14 آذار نظريّةً بأنّ أساس المشكلة في لبنان ليست في السياسة، أو في تبعيّتهم للخليج وعمالتهم للغرب، بل هي في «أن لدينا في لبنان ثقافتان مختلفتان»، واحدة «لبنانية أصيلة» والثانية «غريبة وليست لبنانية». الفكرة هنا هي أنّك حين تكون نتاج نظامٍ طائفيّ، يصنّف الناس في مراتب بحسب طوائفهم واسمائهم وطبقتهم (لهذا السّبب ماركة اللباس والسيارة لهما أهميّة قصوى في لبنان، وليس لأن اللبنانيين يهوون الأزياء وقيادة السيارات)؛ وحين تمارس العنصرية على أبناء بلدك كطقسٍ اجتماعيّ، فليس من المستغرب أن يقوم هذا النّظام باضطهاد لاجئيه الفلسطينيين والسوريين والتمييز ضدّهم، بل المستغرب هو أن لا يفعل ذلك.

عنصرية محليّة

هذه الأنماط من التمييز ليست منفصلة. المارونية السياسية لم تكن «عنصرية» ضد الفلسطينيين بمعنى أن قادتها كانوا يملكون (كالنازيين) نظرة متكاملة الى العالم، تقسّم النّاس الى أعراق، وتضع الفلسطينيين في مرتبةٍ خاصّة وتفسّر لماذا هم يستحقّون الإبادة. نحن نتكلّم هنا (في حالة السوريين والفلسطينيين) على أناسٍ يشبهونك وهم من ثقافتك، ويتكلمون اللغة واللهجة ذاتها تقريباً، ولهذا السّبب اندمج الفلسطينيون بسهولة في بلادٍ «طبيعية» كسوريا والعراق، فيما تعرضوا للتمييز والاضطهاد في المجتمعين الأقرب اليهم: لبنان والأردن.

كراهية المارونية السياسية للفلسطينيين خلال الحرب كانت «تصريفاً» لخوفها من «المسلمين» عامّة، والمسلم اللبناني ــ الذي بدأ يتحوّل الى «أكثرية» ــ تحديداً، وهو من قاتلها وقاتلته أساساً تحت شعار «القتال ضدّ الفلسطيني» على طول سنوات الصّراع. «الغريب» هنا هو نقطة الارتكاز التي تسمح لك بخوض صراعك الداخلي وانت تصدّق انّك لا تخوض حرباً أهلية (تماماً كما يصرّون في المعسكر الخليجي أنهم لا يقاتلون عرباً ومسلمين في سوريا والعراق واليمن، لصالح الغرب واسرائيل، بل هم ببساطة يقاتلون «أذناب ايران» الذين لم يعودوا عرباً، ويصارعون عدواً أجنبياً). وفي حالة لبنان، وجدت النخب اليمينيّة في اللاجئ الفلسطيني الفقير هدفاً مثالياً للعب هذا الدّور (حتّى من الزاوية الديموغرافية، لم يكن اللاجئون الفلسطينيون هم من سيقلب الموازين ويجعل المسيحيين في لبنان «أقلية»). بالمعنى ذاته، فإنّ كثيراً من النخب اللبنانية يكره السوريين ويخافهم باعتبارهم «مسلمين»، وآخرون يخافونهم باعتبارهم «سنّة»، وإن كان البعض يضطهدهم ــ ببساطة ــ لأنّهم سوريّون.

الوجه الآخر

طائفيّة النّظام ليست تفسيراً وحيداً، ولا هي السبب الوحيد للتمييز. تجري نسبةٌ عالية من الاعتداءات ضد اللاجئين السوريين في مناطق لبنانية «سنّية»، وفي فلسطين نفسها (وهذا قد لا يعرفه بعض العرب) تعرّض اللاجئون الى الضفة الغربية بعد النكبة، مثلاً، الى تمييزٍ اجتماعيّ وفوقية لا تختلف كثيراً عن حالة اللاجئ الفلسطيني في صيدا أو بيروت. هنا نصل الى الجانب المخفي، والأهمّ، في أزمة اللجوء السوري: الاستفادة الهائلة التي حصّلتها الرأسمالية اللبنانية من حرب سوريا، والاستغلال الذي تعرّض له لاجئون هاربون من الحرب (وقد التزموا، كلّهم تقريباً، قوانين البلاد وما طلبوا غير «السّترة» ــ والرحيل عن لبنان لو أمكن ــ ومن شارك منهم في العنف والسلاح فعل ذلك بوساطة وتسهيل أطراف لبنانية). تنفّعت الطبقة العليا في لبنان من اللجوء على كلّ المستويات: كُسر سوق العمل وانخفضت الأجور بعد خلق فائضٍ هائل من «العمّال غير المهرة»، فيما تدفّقت مليارات الدولارات السورية على مصارف لبنان، وانتقل الكثير من البرجوازيين السوريين والمستثمرين والتجار الى البلد، يسكنون فيه وينفقون.

ومثلما أنّ النّظام الاقتصادي اللبناني مفتوحٌ «من تحت»، يسمح بالتنافس الشرس بين العمّال المحليين والأجانب، فإنّه مغلقٌ «من فوق»، ما يعني أنّ الرأسمالي اللبناني يستفيد من العامل السوري، ولكنّ التاجر السوري لن يزاحمه وينافسه، ولن يتمكّن من افتتاح مصرفٍ أو دخول قطاعٍ رئيسيّ، بل سيستفيد منه أيضاً على هيئة زبونٍ أو شريك. لم يكن السّماح بدخول ملايين السوريين الى لبنان مصادفة، أو نتيجة «إنسانية» النظام وتعاطفه مع مأساة السوريين، وحين لا يعود اللجوء «مفيداً»، فقد ترعى المؤسسة ذاتها العنصرية ضدّهم. كلّ هذا الشّرح لن يصنع فارقاً بالنّسبة الى العامل اللبناني الذي أصبح «فائضاً» وانخفض أجره أو أضحى عاطلاً عن العمل، واقتنع بأنّ اللاجئ السوريّ هو المسؤول عن وضعه. أنا، شخصياً، لم أتمكّن من اقناع أيّ من رفاقي البروليتاريين الذين يحقدون على العمّال السوريين؛ وحتّى لو استمع الى محاججتك المطوّلة، وفهم أنّ مشكلته هي مع صاحب المصرف والتاجرالسياسي وليست مع العامل الذي يشبهه، فهذا ايضاً لا يغيّر شيئاً. هو يرى العامل السوري أمامه في الشارع وفي مكان العمل، وليس «الرأسمالي»، وهو قد يطمح الى أن يرحّل هذا اللاجئ الى بلده ويخرج من السّوق، وهو قادرٌ على الاعتداء عليه أو ضربه، ولكنّه لن يطال الرأسمالي ولا يملك غير طأطأة الرأس أمام ربّ العمل.

العنصرية ككليشيه

الفكرة هنا هي أنّه، حين نتكلّم على التمييز في بلادنا، فالأجدى هو أن نفهم هذه الديناميات كما هي، ولا نحيل مباشرة الى خطابٍ أوروبي ومواقف معلّبة وأوشفيتز و«لائحة شيندلر». المشكلة ليست فقط في أنّ العنصريّات تأتي مختلفة، ولكلٍّ سياقها وحججها، والتّاريخ لن يعيد نفسه، بل هي أنّ هذا الخطاب «المسيّس» عن العنصريّة يقوم، تحت دعوى «مكافحة العنصرية»، بإعادة تعريفها بشكلٍ يجعل أنماطاً من التمييز «عنصرية» فيما أخرى لا. هذا ما ينتج مشاهد طريفةً من نمط ناشطٍ يحارب «العنصرية اللبنانية ضد السوريين»، ويدّعي أنّ دافعه حساسية ليبرالية فائقة ضدّ هذا «التابو»، ويتخيّل انّه يقاتل النازيين مع قوى التنوير، فيما الجوّ حوله يعجّ بدعاية طائفيّة تدعو، يوميّاً وباستمرار، الى إبادة أكثر من نصف أهل المشرق العربي. نحن نتكلّم على قنوات تمتهن التّحريض، وخطب جمعة تدعو على طوائف وأقوامٌ بالموت، وخطاب إباديّ أضحى اعتياديّاً، ومجموعات مسلّحة تنادي بهذا الهدف كاستراتيجيّة ــ وتنفّذه حين تقدر. المشهد الأطرف، بالطّبع، هو حين تشتكي من «العنصرية» ضدّ السوريين وانت تساهم في هذه الدّعاية، أو تعد اللبنانيين بالسّحق والقتل «لأنهم عنصريون» (بالمناسبة، في مجال التحريض وثقافة الكراهية، المشكلة ليست في «المثقّف الطائفي»، الذي يدعو الى إبادة الشيعة مثلاً، بل في «المثقّف الجبان»، الذي يرى نفسه تقدمياً ولاطائفياً وأنّه يصادق الشيعة، ولكنّه ايضاً لا مشكلة لديه مع من يطالب بإبادتهم. هذا هو ــ حقيقةً وفي كلّ سياق ــ الفاسد والمُفسد، لأنّه يشرّع الخطاب العنصري ويطبّع معه ويجعله «رأياً بين آراء»).

لبنان اليوم بلدٌ قاسٍ للغاية، على أبنائه كما على الغريب، وليس صحيحاً أنّ الأزمة والفاقة تولّد النّبل والتّعاون، بل هي مصنعٌ للّؤم والشّراسة. المأساة الحقيقية أنّ لا أحد في هذا السيناريو كان مخيّراً، لا العامل اللبناني الذي وجد نفسه في منافسةٍ مع اللاجئ السوري، ولا السّوري اختار الحرب وأن يرحل ويُذلّ في لبنان (كلّ من كانت «له قيمة» في التحريض على الحرب هو اليوم في الغرب أو الخليج، وليس في مخيمات لجوء الفقراء. وأترابهم في لبنان يعتاش بعضهم ــ حرفياً ــ من مأساة السوريين ووظائف وكالات الغوث وتدفّق أموال المعونات، التي تحوّلت الى وظائف مجزية للـ«ناشطين»). ولكن ما يجري اليوم ليس فريداً في تاريخ المنطقة، التي صنعت ملامحها الحروب والهجرات. وبعد أن تنتهي الحروب القائمة، سيكون وجه المنطقة مختلفاً، وهو بالقطع لن يعجب «العنصري» أو من يتمترس خلف حدوده، والتاريخ والوقائع لا تجاري أحداً. المسألة الآن هي أن تنتهي الحرب وأن نهزم، حقّاً، «العنصريات» المشتعلة، لا أن تختار تلك التي تناسبك.