أبوعلي مصطفى: وأنا أيضاً من تيار جورج حبش

حجم الخط

في الواقع ليس من السهل الكتابة عن رفيق غيب مبكراً، مناضل مفكر، شكّل حالة قيادية استثنائية في الثورة الفلسطينية وحركات التحرر العربية والعالمية جعلته يفرض احترام قيادات أشد الخصوم السياسيين له ويكسب حب الجماهير بجدارة.

كانت لأبوعلي كارزماتية نادرة تتجلى عندما كان يبتسم وكانت تزداد بريقاً إذا عبس، لهذا كانت تُطلق عليه صفات مثل " جدي وصارم وما عنده مزح" وما " بيضحك للرغيف السخن" و" الله يستر إذا عبس أبوعلي" و" حنون ولطيف لأبعد الحدود".

أينما كان يحل كان يملأ المكان بهيبته ويأخذ كل شخص يروي عنه قصة نضالية سمعها أو عايشها؛ فبينما كنا جالسين في صالة الفنادق بالعاصمة اليونانية أثينا بانتظار نزول أعضاء وفد منظمة التحرير الفلسطينية لتناول الغذاء، حيث كان على رأسه الأخ أبواللطف مهندس الدبلوماسية الفلسطينية في ذلك الزمن الجيد، والرفيق أبوعلي مصطفى نائب الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بدعوة من رئيس وزرائها الاشتراكي آنذاك، الراحل " اندرياس باباندريو".

قّدم أحد كوادر " فتح" اقتراحاً لمسئول الحركة في اليونان الأخ والصديق " سميح" بأن يلتقي مسئولين الإقليم بالرفيق أبوعلي، هذا الاقتراح المفاجئ ترك لحظات من الصمت لأنه تم خارج المألوف.

التفت نحوي الأخ " سميح" مسئول الإقليم في ذلك الوقت وسألني " إذا هذا ممكن؟" قلت له " قل لي بوضوح ماذا تريدون؟" فأجاب بنوع من الفضول والرغبة الجامحة " هل ممكن لنا كمسئولين لإقليم الحركة أن نلتقي مع الرفيق أبوعلي للتعرف عليه عن قرب والحديث معه حول أوضاعنا الصعبة؟" قلت " نعم ممكن ولكن يجب إبلاغ الأخ أبو اللطف بالاقتراح قبل عرضه على الرفيق أبوعلي". نظر إليّ بتمعن وقال " كيف أنت بتجاوب بنعم بدون ما تشاور الرفيق أبوعلي، وتطلب منا أن نشاور الأخ أبو اللطف؟ يعني بدك تقلي انتوا في الجبهة علاقاتكم مع القيادة هيك " خوش بوش!" رغم احساسي ببعض الحرج أجبته " أن هيك لقاء لا يحتاج إلى قرار من م.س" فغمز من زاوية أخرى آخ آخر وكبها مرة وحدة " لا معليش ما هو اسحق من تيار أبوعلي مصطفى".

كانت هنالك إشاعات مغرضة في أوساط الثمانينات وخاصة أثناء الحرب على المخيمات في لبنان وتمرد القيادي العسكري أبوموسى وأبوخالد العملة وغيرهم على قيادة الزعيم الراحل ياسر عرفات، أن ما يحدث في " فتح" سيحدث في تنظيمات أخرى وأن الدور على الشعبية التي يوجد فيها تيارين " تيار جورج حبش وتيار أبوعلي مصطفى"!.

ذهب " سميح" إلى غرفة الأخ أبو اللطف، عاد سريعاً والابتسامة تعلو وجهه قائلاً " أبو اللطف قال ولو أبوعلي أخونا ورفيقنا وفيكم تجلسوا معه قد ما بدكم واستفيدوا من أفكاره وتجربته النضالية ووصانا أن نكون مؤدبين" وخاطبني " نحن جاهزين خبّر أبوعلي ".

ذهبت إلى غرفة الرفيق أبوعلي، قرعت الباب كما كنا متفقين فقال " ادخل يا رفيق". كان جالس على كرسي وأمامه مجموعة من الأوراق يقلبها ويسجل ملاحظاته، نظر نحوي وسألني " شو في؟" قلت " هنالك رغبة من الأخوة مسئولي إقليم " فتح" أن يلتقوا معك لوضعهم في صورة آخر التطورات على الساحة الفلسطينية، وللتعرف عليك من قرب". نهض عن الكرسي وسألني " هل طلبوا اذن من الأخ أبو اللطف؟" قلت " نعم كل شيء تمام بل هو شجع الفكرة". بينما كان يستعد لمغادرة الغرفة للذهاب لمطعم الفندق، أخذ يحدثني عن الوضع في اليونان والتحديات الرئيسية التي تواجههم والدور الخطير للقواعد الأمريكية على البلد والمنطقة، وتوجه إلى الشباك وأطل على المدينة وقال بنوع من الألم والتحدي " على أرض هذه المدينة استشهد الرفيق سمير الأسمر، وأدبناهم على أرضها أيضاً، أنت يا رفيق لساك شاب وفي بداية الطريق بدي إياك تدرك أن مبدأ العين بالعين والسن بالسن ضمن عملية نضالية متكاملة هو مبدأ صحيح ويوجع العدو وبيمنعه أن يسرح ويمرح على كيفه".

وصلنا إلى المطعم وكان أبو اللطف وباقي الأخوة في الانتظار، اعتذر الرفيق أبوعلي عن التأخر فرد أبو اللطف" نحن والله يا أبو علي يا دوب واصلين".

تناولنا الغذاء وتبادلنا أحاديث عادية، وإذا أبو اللطف يطلب منا للاستماع لقصة حدثت معه عندما كان في زيارة للبيرو، وتوجه للرفيق أبوعلي قائلاً: " عندما كنت قبل اكم من سنة في زيارة للبيرو عزموني على عشا في ديوان أحد الوجهاء وكان الديوان مش واسع، ملان ناس، فأخذت أقص عليهم عن الكوكب الصغير الذي من الممكن أن يصطدم بالكرة الأرضية بعد مئات السنين، وكيف أن السوفيت يحاولون أن يدمروه في الفضاء، والله يا أبوعلي ما شفتلك إلا هالختيار قام وقف ورفع عصاته وقلي " شو يا أخ أبو اللطف قصتك، جاي تحكيلنا عن كوكب بدو يصدمنا بعد 100 سنة وأكثر، احكيلنا عن الصهاينة اللي قاعدين بصدموا فينا كل دقيقة"" كلنا فرطنا من الضحك، وقال أبوعلي " والله الختيار ما قصّر وابتستاهل، عنجد كيف بتروح تحكيلهم هيك خراريف" أبو اللطف رد " معك حق يا أبوعلي، وعلى شان هيك اتعلمت منهم أشياء كثيرة في الدبلوماسية".

صعدنا إلى غرفة الرفيق أبوعلي وبعد دقائق وصل الأخ " سميح" ومعه معظم قيادة الإقليم، بعد التعريف على كل واحد باسمه رحب بهم الرفيق أبوعلي وعبّر عن سعادته بهذه المبادرة وأخذ بتحليل الأوضاع الدولية والعربية وانعكاسها على نضالنا وقضيتنا ومن ثم تناول موضوع الوحدة الوطنية كما تفهمها الجبهة الشعبية " يجب أيها الأخوة أن لا تتفاجئوا إذا قلت لكم وبصراحة أننا لم نستطيع الوصول لبناء الوحدة الحقيقة، بسبب رهان قيادة منظمة التحرير على التسوية السياسية مع العدو " هنا سأله أخ من الحاضرين " إذا ما فيش عنا وحدة وطنية كيف أنت أخ أبوعلي تصف العلاقات القائمة بين الفصائل داخل م.ت.ف؟" أبو علي أجاب فوراً وبهدوء وكأنه كان يتوقع السؤال " إننا في حالة تعايش وطني منذ البداية لحد الآن وأسهب في شرح الفرق بين التعايش والوحدة، وفتح باب الأسئلة التي كانت متنوعة وكثيرة".

بعد صمت خلال تناول القهوة سأل أحد الأخوة – بعد التعبير عن الأسف والحرج من أبوعلي " هل هنالك داخل الجبهة تيارين واحد هو تيار الأخ جورج حبش والآخر هو تيار الأخ أبوعلي مصطفى؟" الأخ أنهى سؤاله والعرق يتصبب على وجهه حيث شعر وكأنه انتهك قواعد الاجتماع أو فيه نوع من الإحراج لأبي علي!.

ضحك أبوعلي من كل قلبه، ارتاح الأخ صاحب السؤال، حيث شكره أبوعلي على سؤاله وقال وهو لسا يبتسم " إذا في داخل الجبهة الشعبية تيار لجورج حبش وأنا أيضاً أعلن أنني من تيار جورج حبش، وما فيكم تتصوروا قديش أنا بحب وبقدر هذا القائد ليس لأنه أميننا العام بل لأنه قائد من طراز جديد " .

شعر الحاضرون بانفراج من هذه الطريقة في الإجابة، بعد حرج شديد بسبب سؤال الأخ، واستطرد الرفيق أبوعلي في الحديث عن " أن وجود التعارضات في أي تنظيم أو حركة هو شيء طبيعي وموضوعي بسبب التباين بين مكونات الأحزاب والحركات طبقياً ومن ثم سياسياً، ولكن أركز دائماً على أهمية الوحدة التنظيمية والسياسية ما دام هذا ممكناً ويخدم العملية النضالية والقضية الوطنية".

الجميع قدّم الشكر للرفيق أبوعلي وقال أحدهم مخاطباً له " لأول مرة نجري نقاش وحديث مفتوح وصريح مع قيادي فلسطيني اني والأخوة سعيدين بهذا اللقاء ونعبّر عن فخرنا بك يا أبا علي".

في تلك الفترة كان الرفيق أبوعلي رافع شعار " العلاج بالسكين مش بالأسبرين" لعلاج معضلات الثورة الفلسطينية وفي القلب منها الجبهة الشعبية.