غوغاء الصهيونية: عن الإبداع والإبداع المضاد

حجم الخط

​«شلون أوَصْفَكْ وإنتَ كُلَّكْ عارْ وذِلَّه
يا شعب هذا اللي تشوفه
موش إبِنّا
موش لَبَنّا»
مظفر النواب: «براءة الأخت»
هل سمعتم عن جواد سليم؟

جواد سليم، و«بلا تردد»، يقول غسان كنفاني، هو «صاحب أبرز عمل (فني) من نوعه في العالم» (فارس فارس:١٠٠)، وأيضاً أحد «أعظم النحاتين» في القرن العشرين حسب ادوارد سعيد (الثقافة والإمبريالية: ٣٥٩-٣٦٠).

والعمل الذي قصده كنفاني، وكان بالتأكيد في خلفية تقدير ادوارد سعيد بأن «العراق أعطانا أعظم نحاتي القرن العشرين»، هو «نصب الحرية» الذي يزين ساحة التحرير في بغداد ويمتد على طول خمسين متراً وبعرض عشرة أمتار ويشمل عرضاً عبقرياً لتاريخ (ومستقبل) العراق السياسي والاجتماعي الطويل، لا مثيل له على الإطلاق، ربما في كل العالم فعلاً.

وعدا عن التسمية التي اختارها جواد سليم لعمله الفذ (الحرية)، وعدا عن مكان انتصابه (ساحة التحرير)، فإن تفاصيل كل قطعة من قطعه الأربع عشرة كذلك محملة، بل ومثقلة، بدلالات سياسية واجتماعية وتاريخية وحتى ايديولوجية هائلة لا مجال للعين أن تخطئها. وليس ذلك بسبب رغبة ذاتية لدى سليم لإنتاج عمل استثنائي يضعه «في قلب بغداد وأهلها» وفي قلب العراق للأبد، كما حصل فعلاً، وليس ذلك حتى بسبب أي انحيازات سياسية أو اجتماعية أو أيديولوجية قد تكون سكنت عقل الفنان الفذ. بل، لأنها، ببساطة، طبيعة الأشياء.

فلو حاول سليم فصل السياسة (والاجتماع والتاريخ) عن الفن، لكان انتهى حقاً بأربع عشرة قطعة سخيفة من الحجارة والجبس لا معنى لها على الإطلاق. والأهم أكثر من أي شيء، لأن عمل سليم الفذ هذا مَثَّل روحاً عقلانية عربية جديدة (وليس عراقية فقط)، وعَبَّرَ عن سيادة مجال مفاهيمي عربي جديد، وتَبَلوُر عقيدة عربية جديدة تطورت كلها استجابة لنكبة العرب في فلسطين وتحديها الوجودي لهم. كان العرب حينها على قدر التحدي، وعَمَل جواد سليم ليس إلا دليلاً واحداً على العبقرية العربية التي أرّقَها السعي للتحرر من الاستعمار والوحدة وتحرير فلسطين. كان هذا، طبعاً، قبل كارثة الانفصال بين مصر وسوريا (بدل انضمام العراق لهذه الوحدة) وتأسيسها بعد ذلك بست سنوات لكارثة النكسة، التي استولدت بدورها تدريجاً عقلانية سياسية مهزومة، ومجالاً مفاهيمياً مأزوماً، وعقيدة مضادة مثقلة حتى النخاع بالمقولات الصهيونية والدلالات الاستعمارية.

زمن جواد سليم: معنى الإبداع

جواد سليم، الذي رحل شاباً، لم يترك عملاً إبداعياً أقلق، ولا يزال، كل سلطة سياسية في العراق منذ سلطة ثورة ١٩٥٨ (شيد العمل في زمنها) فقط، ولم يترك، أيضاً، عملاً فذاً حتى وفق أكثر المقاييس الفنية العربية والعالمية تشدداً وصرامة، لكنه، كذلك، جعل مهمة كل نحات وفنان عراقي يأتي بعده شديدة الصعوبة برفعه سقف الإبداع عالياً جداً جداً – لا بد أن كل نحات عراقي عانى (ويعاني) أرق المعايير العالية جداً التي أسست لها أعمال جواد سليم، ولا بد أنه يعمل كل يوم مسكوناً بشبح معايير ومكانة وعبقرية «نصب الحرية» وصاحبها. فلا يمكن لأي ناقد فني أن يعطي حتى علامة «جيد»، يقول كنفاني، «لأي إنتاج عراقي آخر بالسهولة (ذاتها) حين يكون في معرض تقييم» أي عمل آخر من خارج العراق (فارس فارس ١٠٠).

هذا كان زمن جواد سليم: كانت المقاييس الفنية حقيقية وجدية وقاسية وصارمة وعالمية، وكان الميزان يفترض أن يكسر كل عمل جديد حدود الإبداع القائمة ويستبدلها بحدود جديدة. لكن، حتى نفهم معنى عبقرية جواد سليم جدياً وحتى نعرف مقدار موهبته الفذة حقاً (وأيضاً حتى لا ينطلي علينا الخلط الحاصل هذه الأيام والذي يستند لمقاييس سخيفة في أحسن الأحوال تنتهي إلى اعتبار أمثال زياد دويري ثروة قومية) فعلينا أن نعرف أن العراق حينها لم يتفوق في مجال فني واحد برع فيه جواد سليم للحد الأقصى (النحت)، بل كانت الريادة العراقية شاملة لكل المجالات وبمقاييس عالمية حقيقية وشديدة الصرامة. فـ «من بغداد»، يقول إدوارد سعيد، «خرج على الأقل خمسة من أعظم شعراء العربية في القرن العشرين، وبلا أي شك معظم كبار الفنانين والمهندسين المعماريين، والنحاتين» (الثقافة والإمبريالية: ٣٥٩). أما المبدع كنفاني فيؤكد في تبرير انتقاده لمجموعة يوسف الحيدري، «حين يجف البحر»، الجيدة على كل الأحوال، وقسوته الخاصة عليه بأن «الريادة الفنية العراقية تفترض بالبداهة قياساً عالمياً وشديداً. فبعد بدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ونازك الملائكة، والجواهري وغيرهم، بات من الصعب أن نقبل شاعراً عراقياً في مستوى الدكتورة طلعت الرفاعي مثلاً، التي ستبدو (في مكان آخر) لا بأس بها» (ص:١٠٠).

لهذا بالضبط يذكرنا كنفاني: «لا يستطيع الناقد حين يتعرض للإنتاج الأدبي العراقي الحالي، أن يَفِرّ من حقيقة قد لا تكون في مصلحة الكتاب العراقيين المعاصرين (مقارنة بغيرهم). وهذه الحقيقة هي أن العراق يشهد الآن حركة فنية وأدبية ممتازة، وذات مستوى من الطراز الأول وتشكل واحدة من أبرز طلائع الإنتاج العربي المعاصر التي تبدو - حتى الآن- مقتصرة بالترتيب على العراق فالسودان فمصر. وهذه الحقيقة تجعل الناقد مضطراً لمطالبة الكاتب العراقي الجديد بمستوى قد يكون متسامحاً فيه إذا كان الأمر يتعلق بغيره. وهذا يعني أن «الميزان» الذي يضطر الناقد لوزن الإنتاج العراقي الشاب به يختلف من حيث المعايير عن غيره من الموازين».

لم يكن جواد سليم، إذن، مبدعاً استثنائياً، بل كان مبدعاً استثنائياً في زمان ومكان مليئين بالمبدعين الاستثنائيين. كان مبدعاً استثنائياً لأن إنتاجه الفني هو الذي حدد مقاييس الأعمال العالمية فأصبحت تقاس بميزانه لا العكس – يحكى أن الامم المتحدة تحتفظ بنموذج برونزي مصغر لعمله «السجين السياسي المجهول»، فيكون بذلك ضمن مجموعة قليلة جداً من الفنانين العالميين الذين تحتفظ المؤسسة الدولية بنماذج من أعمالهم، تماماً مثل لوحة «غيرنيكا» الشهيرة لبيكاسو. ولوحة بيكاسو، هذه، التي تعتبر أحد أهم الأعمال الفنية المعارضة للحرب، يوجد منها نموذج قماشي على مدخل قاعة مجلس الامن حيث تعقد المؤتمرات الصحافية، ولها قصة على صلة وثيقة بالعراق وأبعد من مأساة مدينة غيرنيكا بكثير (دمرتها الطائرات الألمانية والايطالية نيابة عن القوميين الفاشيين أثناء الحرب الأهلية الإسبانية). فعشية عرض كولن باول لسيناريو المجزرة التي ارتكبتها أميركا لاحقاً في العراق في مجلس الأمن في ٥ شباط ٢٠٠٣، فرضت أميركا على الامم المتحدة تغطية اللوحة بستار أزرق - فالمشهد كان سيبدو سوريالياً حقاً أن تدعو للحرب من أمام اللوحة التي أصبحت أحد أهم رموز معارضة الحرب عالمياً. لكن علينا أن نصدق أن الفن لا علاقة له بالسياسة، وبالتالي أن إبداع زياد دويري رباني، وأن فنه ينتمي لفئة فريدة جداً (غير فئة بيكاسو بالتأكيد) من الإبداع النقي والخالص من أي سياسة أو دلالات أيديولوجية وأنها فوق الزمان والمكان والتاريخ والجغرافيا والعصر- أليس هذا حَوَلْ تاريخي؟!

زمن دويري: الإبداع المضاد

«الكتاب الجيد»، يقول جون ميلتون في خطابه الشهير، «آريوباجيتيكا»، أمام البرلمان الإنكليزي هو «شريان الحياة الثمين لروح الكاتب». فالكتاب عنده كفيل بأن «يحفظ روح الكاتب لحياة ما بعد الحياة». لكن الكتب والأفكار، في الحقيقة، هي أكثر من ذلك بكثير، يقول ديفيد سكوت في «مجندو الحداثة». فـ «الكتاب هو نتيجة لظروف العصر التي تُشَكِّلْ بالضرورة عقلية وظروف كل من يلعب دوراً رئيسياً في كل حقبة وعصر». كان ماركس محقاً، إذن، فـ «الفلاسفة لا ينبتون من الأرض كالفطر، بل هم ثمرة عصرهم». لهذا، فمن أجل إدراك وفهم مجالات المعرفة الفردية والإبداع الفردي يتوجب أولاً وضعها «في سياق تاريخي وبترابطها مع المعرفة السابقة وتواصلها معها»، كما جادل إنجلز في تصديره لـ «ضد دوهرنج». بهذا المعنى، فإن علم الأفكار، أو علم تطور الفكر الإنساني، هو علم تاريخي بامتياز ـ لهذا بالضبط تأخذ الأفكار شكلاً ومحتوى مختلفاً في كل عصر– ولهذا، أيضاً، يوجد فارق شاسع بين الإنتاج الفني (والثقافي عموماً) في زمن نهضة الامم والشعوب وفي زمن انحطاطها، وهو، هو، الفرق بين زمن جواد سليم وزمن زياد دويري (ناقشت هذه الفكرة بالتفصيل سابقاً هنا في «الاخبار» ولهذا لن ازيد عليها).

هكذا، برأيي، يجب، أيضاً، رؤية فكرة الإبداع وتقييم الأعمال الفنية والأدبية وتقدير وتقييم إنجازات الشعوب والافراد. هكذا يصبح النقد هو نقد للحالة والظروف والعقلية والأدوات النظرية واللغوية التي حددت وشَكَّلتْ خيال من يعمل في الحقل الثقافي في كل حقبة بمعزل عن شخصهم – وهكذا، أيضاً، نعيد الاعتبار لفكرة الفن فتكون أكبر بكثير من الحكم على مخرج سينمائي فقط بمدى إمساكه وإتقانه وتجييره لتقنية الكاميرا والإضاءة في العمل الفني أو حصول أحد ممثليه (وليس هو) على جائزة، كما حاول بعض أعضاء نادي معجبي دويري تقديم إبداع صاحبهم. هذا تشييء خطير لظاهرة فائقة التعقيد والتركيب ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وتاريخية لا يمكن اختزالها وابتذالها برؤية فائقة السخف عن الفن والإبداع بالحد الأدنى. فهذه الرؤية تفترض هامشية الفكرة الأساسية التي يستند إليها العمل بدل مركزيتها، وتستثني أي دور للعقيدة السياسية التي تسكن عقل صانعه، وبالتالي وبالضرورة تشكل العمل كذلك – إلا إذا كان نادي المعجبين هذا يرى أن دويري فوق البشر ويعمل خلف حدود التاريخ والجغرافيا والسياسة والاجتماع.

زمن دويري، في الحقيقة، له علاقة بحقبة تاريخية بدأت (بالصدفة) مع مولده في بدايات الستينات وتمثلت بمقدمات إعادة تشكيل للعقيدة العربية السائدة حينها، والتي صعدت في أعقاب النكبة وشكلت مقاومة الاستعمار والوحدة العربية وتحرير فلسطين ركائزها، عبر استدخال مقولات صهيونية ودلالات استعمارية مضادة ضربت قلب الوعي العربي. وزمن دويري، هذا، بدأ بالضبط مع نهاية زمن جواد سليم (توفي في ١٩٦١) وترافق مع كارثة الانفصال بين مصر وسوريا (٢٨ أيلول ١٩٦١) التي أسست للنكسة، الكارثة الأكبر في التاريخ العربي المعاصر على الإطلاق. لهذا، فاستخدام فكرة الزمن هنا هو محاولة لتحقيب (من حقبة) تبلور عقيدة عربية مشوهة، أو مضادة إن شئتم، محملة ومثقلة حتى النخاع بمقولات صهيونية ودلالات استعمارية وإدراك كيفية استيلادها – زياد دويري كشخص لا يعني شيئاً في هذا السياق أكثر من كونه نموذجاً يمكن استخدامه لتركيب المشهد الأكبر. تخيلوا، مثلاً، ردة الفعل العربية من المحيط إلى الخليج على أي دعوة علنية لتأييد العدوان الثلاثي على مصر في ١٩٥٦؟ قارنوا ذلك بالدعوات اليومية التي نسمعها لغزو سوريا؟ لكل حقبة عقيدة إذن، ولكل عقيدة رموزها ورجالها وفنانيها ومبدعيها.

وبقدر ما كانت استجابة العرب ومبدعيهم لتحدي نكبة فلسطين مقدمة لاستيلاد عقيدة عروبية (مرة أخرى ركائزها مقاومة الاستعمار والوحدة وتحرير فلسطين) بقدر ما كان الانفصال ثم النكسة مقدمات لاستيلاد عقيدة مضادة ركائزها القُطْرية التابعة وفلسفة القُطر أولاً، والتطبيع، وحتى الاعتراف بالعدو والإعجاب به - وهذا ليس أقل من تعبير عن التحولات الجذرية التي أصابت النخب العربية الحاكمة وترابط مصالحها مع العدو. الاولى أعطتنا مصر عبد الناصر والوحدة السورية المصرية وحررت الجزائر واليمن الجنوبي وثورة ظفار وثورة تموز في العراق والثورة الفلسطينية وشكلت عاملاً مهماً في نهضة شاملة تجلت في كل المجالات تقريباً واعطتنا جواد سليم ومئات المبدعين من أمثاله (كتبت عنها بتفصيل هنا في «الاخبار»). أما الثانية فأعطتنا السادات (والساداتية) وحركة الاخوان المسلمين وبشير الجميل ومحمود عباس ومثلها فنياً مذهب «خلي بالك من زوزو»، وطبعا زياد الدويري وأشباهه مؤخراً.

خذوا، مثلاً، وقارنوا، بين رفض «العبقري» سري نسيبة للمقاطعة الأكاديمية للكيان الصهيوني، حين كان رئيس جامعة القدس، ودعوته لـ «إلغاء الاستعمار عبر المشاركة الأكاديمية» ورد مجموعة من الأكاديميين الفلسطينيين عليها. الفيلسوف، كما يعرف نفسه على ويكيبيديا، يدعو بالحرف «لبناء الجسور بدل الجدران» مع الكيان الصهيوني، ويفصح عن «الرغبة في أن نربح الإسرائيليين إلى جانبنا بدل أن ننتصر عليهم» كل هذه العبارات قد لا تبدو على وجهها أكثر من «هبل» خالص لا معنى له، إن لم نقل أنها تصلح كنموذج لـ «التخلف الإدراكي» بامتياز. لكن، لا يخدعنكم ظاهر سطحيتهم وسذاجتهم، فهي، في الحقيقة غير ذلك تماماً. ما قد يبدو لنا كمصاب معرفي ضرب قلب وعينا السياسي وشوهه، هو في الحقيقة أفضل تعبير عن العقيدة المضادة وطريقة التفكير الجديدة التي بررت وتبرر (وحتى تشجع على) كسر كل الخطوط الحمر وتحليل كل المحرمات. هذه، في العمق، أيديولوجيا طبقية بامتياز تعبر عن مصالح هائلة لشريحة نمت وتطورت منذ الانفصال وتعززت مع النكسة وكامب ديفيد والتقت مصالحها، ولا تزال، بنيوياً مع مصالح العدو واستعماره لفلسطين. كل ما يفعلونه هو محاولة تعميم هذه العقيدة عبر الفن والإعلام والأكاديميا وغيرها من الأدوات التقليدية.

خاتمة: عن الغوغاء

في «تأملات في المنفى»، يصف إدوارد سعيد في معرض تقييمه لـ «القصة والقصة القصيرة العربية» بعد النكبة، رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» بأنها «واحدة من أرقى (أفضل) وأقوى القصص القصيرة الحديثة» (ص:٥١). ورؤية سعيد هنا، كناقد أدبي وفني بارع تؤكد أن النقد الأدبي (والفني) هو أكثر عمقاً وأشد تعقيداً من سطحية الانبهار ببراعة استخدام تقنيات الكتابة وعدتها (كما يذهب منطق المدافعين عن دويري)، بل يتضمن أساساً وبلا أي مواربة التركيز على عوامل السياسة والاجتماع والتاريخ وحتى الأيديولوجيا. لهذا، يؤكد سعيد أن كنفاني كان نموذجاً لكاتب من نوع خاص اقتضت وجوده الحالة العربية الجديدة حينها. فما بعد النكبة، وتحديداً بعد ثورة 1952 في مصر، التي ساهمت في التأسيس لنشوء حركات التحرر، «تفاقم دور الكاتب»، يقول إدوارد سعيد، وأصبحت الكتابة لدى «من يعتبر نفسه منخرطاً جدياً في واقع عصره «فعلاً تاريخياً»، بل فعل مقاوم بعد ١٩٦٧» (ص: ٤٨). وفيما شكلت النكبة سؤال العرب الوجودي وسؤال استمرارهم الثقافي بامتياز، أصبح على الكاتب العربي «إنتاج فكر ولغة يجسدان إرادة الدفاع عن ما هو مهدد بالانقراض في الحياة العربية» (ص: ٤٨) – ناقشت هذه الفكرة بالتفصيل هنا في «الأخبار» سابقاً).

لكن هذا لم يمنع محاولات النيل من كنفاني مؤخراً، وتوصيفه بـ «القتيل»، وحتى تحميله هو مسؤولية اغتياله، كما جاء في أحد مقالات صحيفة عربية. وهذا النقد طبعاً مأخوذ بالحرف من سرديات الدعاية الصهيونية التي تعمل باستمرار على تحميل المقاومة والمقاومين مسؤولية القتل والدمار الذي يقوم به الكيان الصهيوني في بلادنا. وفي نقد آخر (مؤخراً أيضاً)، زعموا حتى أن كنفاني كان ذكورياً (وطبعاً، فاتت هذه الفكرة العبقرية إدوارد سعيد، لكن جهابذة الفكر كانوا لها بالمرصاد). لكن غسان، وإن استُهدف بذاته ولذاته، فالنيل منه هو أيضاً محاولة للنيل من كل ما يمثله من عقلانية سياسية وعقيدة مقاومة، وفي ذات الوقت الدعاية ايضاً لعقيدة مضادة وعقلانية سياسية مهزومة.

بذات الطريقة يمكن فهم الهجوم على المثقف المقاوم بيار ابي صعب بسبب قوله: «إسرائيل ليست وجهة نظر». هي، هي ذات العقيدة التي تحاول أن تقنعنا أن في قول بيار هذا انتهاكاً صارخاً للحريات، كما كتب أحدهم (على صفحة «الحرة» لا غير). وانقلاب الموازين هذا، مرة أخرى، لم يحدث فجأة. بل، هو نتاج صيرورة عمرها من عمر النكسة أصبحت فيها المقاومة جنوناً في أحسن الأحوال (وليست حتى وجهة نظر)، والمطالبة بتحرير فلسطين جنوناً أيضاً، فيما التطبيع والاعتراف بالعدو هما عين العقل. لكن تفاؤلي، مرة أخرى، بأنهم لم، ولن، ينتصروا، وأنهم لم، ولن، ينجحوا سببه، كما كتبت لبيار، هذا الفهم لهذه الظاهرة. لهذا، كتبت له، أن لا يبالي بتلك الأصوات التي ينطبق على أغلبها توصيف المبدع هادي العلوي في «في الإسلام المعاصر»، بـ «الغوغاء»، كنقيض للعامة أو «جمهور العوام» الذين يجري الصراع عليهم وعلى وعيهم بيننا وبين أصحاب العقيدة المضادة:

«ومن الأوهام التي تتكرر في أوساط المؤرخين المعاصرين أن العامة اضطهدت المفكرين. وهو وهم ناتج عن الخلط بين العامة والغوغاء الدينية. إن أهل الإسكندرية وأهل القاهرة لم يخرجوا في مظاهرات حاشدة للتنديد بابن سبعين حين قدم إليها منفياً من المغرب، وإنما منعه من الإقامة في مصر رجال الدين الذين كان بمقدورهم تحريك أتباعهم المقربين لإزعاج القطب الصوفي وعدم تمكينه من الاستقرار. وعوام بغداد ليسوا هم الذين رموا الحلاج بالحجارة وهو مصلوب، وإنما الغوغاء التي كانت توجهها الحنابلة» (ص: ١٦).

انتهى المقال. الآن سأعود لاستكمال قراءة ديوان المكزون السنجاري، مبدع آخر لو قرأه (وفهمه) أصحاب الفهم الساذج للإبداع ودعاة الإبداع المضاد لخجلوا من أنفسهم.

عن الاخبار اللبنانية