مئوية ناصر

حجم الخط

«لن يتركوني أبداً».. كانت عبارته قاطعة وهو يتوقع أن يلاحقوه حتى الموت «قتيلاً أو سجيناً أو مدفوناً في مقبرة مجهولة».

بدت الكلمات ثقيلة على الابن الصبي وهو يستمع إليها ذات مساء من عام (1969) عند ذروة حرب الاستنزاف هكذا روى «خالد عبد الناصر».

في الكلام إدراك لطبيعة الدور الذي يلعبه والحرب التي يخوضها وأن التخلص منه يدخل في صميم الصراع على القوة والنفوذ بالمنطقة كلها. وفيه ظلال تقارير ربما يكون قد قرأها في ذلك اليوم البعيد عن محاولات جديدة لاغتياله.

هناك شبهات أنهم وصلوا إليه بـ«السم»، ولكنها غير مؤكدة ولا دليل قاطع عليها. كانت جنازته الأكبر في التاريخ الإنساني كأنها بحر من الدموع حسب تعبير وكالات الأنباء العالمية وقتها.

بصورة مختلفة تحققت نبوءته، فقد جرت أطول حرب على مشروعه حتى تكون «يوليو» آخر الثورات وهو آخر الزعماء بنص تعبير وزير الخارجية الأمريكية الأسبق «هنري كيسنجر».

رغم ضراوة الملاحقة وحملاتها بقيت «يوليو» في الذاكرة العامة بأحلامها التي أجهضت وقيمها التي أهدرت. لم تولد «يوليو» من فراغ ولا كانت زعامته محض مصادفة. لا أحد يخترع الثورات فكل ثورة بنت تحديات زمانها، ولا أحد يؤلف الزعامات فلكل دور استحقاقاته وأثمانه.

عقب الحرب العالمية الثانية تصاعدت نداءات التحرر الوطني في جنبات العالم الثالث، وكانت مصر ترزح تحت الاحتلال البريطاني وسيطرته على قرارها السياسي رغم انسحابه إلى مدن القناة وفق معاهدة (1936). في مطلع الخمسينيات ألغى «مصطفى النحاس» زعيم الوفد تلك المعاهدة التي وقعها بنفسه، وبدت مصر أمام منعطف جديد يؤذن بغروب صفحة كاملة من التاريخ المصري.

تصاعدت نداءات الجلاء بالسلاح وتدفقت إلى الإسماعيلية مجموعات الفدائيين بعد أن سدت أبواب التفاوض. بحسب شهادات متواترة أهمها ما وثقه «كمال الدين رفعت» فإن دور الضباط الأحرار كان جوهرياً في ذلك التطور تخطيطاً وتدريباً وتسليحاً.

بيقين لم يأت «جمال عبد الناصر» ورفاقه إلى السلطة من خارج سياق الحركة الوطنية ولا كانت لهم أهداف تتعدى مطالبها الرئيسية.

كان سياسياً قبل أن يكون عسكرياً، مر على «مصر الفتاة» و«الإخوان المسلمين» و«حدتو» لكنه لم يلتحق بعضوياتها.

وهو يقاتل في فلسطين كتب بخط يده «لقد فقدنا ثقتنا في حكامنا وقياداتنا»، وبدا مقتنعاً أن التغيير من القاهرة وعندما رجع إليها أعاد بناء الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار.
كان النظام الملكي يتهاوى ولم يبق غير أن يتقدم أحد لإزاحته.

بأي تعريف كلاسيكي لما جرى ليلة (23) يوليو فهو انقلاب عسكري.

غير أن الحدث الكبير لم يستغرق وقتاً حتى استحق صفة الثورة. كان عميد الأدب العربي الدكتور «طه حسين» أول من أطلق وصف الثورة على (23) يوليو، بعدما كانت تسمى في بداياتها ب«الحركة المباركة».

الثورات تجهض عندما يقف زخمها في منتصف الطريق.

لا القديم أزاحته ولا الجديد بنته. وقد كانت «يوليو» الثورة الوحيدة في التاريخ المصري الحديث كله التي طرحت مشروعاً كاملاً للتغيير.

الثورة العرابية في ثمانينيات القرن التاسع عشر أجهضت سريعاً واحتلت مصر ونفى زعيمها. وثورة (1919) أحدثت اختراقاً كبيراً في قواعد اللعبة السياسية دون أن تتمكن لأسباب كثيرة من تحقيق هدفيها الرئيسيين: الاستقلال والدستور.

أياً كانت حدة الانتقادات وفداحة الأخطاء لا توجد ثورة مصرية أخرى تضاهي «يوليو» في عمق الإنجاز وحجم التحول وقدر الأثر.

بقوة الفعل التاريخي، لا الافتراضي، اكتسب شعبية استثنائية امتد أثرها عبر العقود الطويلة.

حسب تعبير شهير للإمام «أحمد بن حنبل» عندما اشتدت محنته: «بيننا وبينكم الجنائز».

هذا ليس كلاماً عاطفياً مرسلاً فشرائط الجنازة المسجلة تكشف وتبين دون ادعاء عمق الحزن العام عليه لدرجة تكاد ألا تصدق. كان قد مات في الثانية والخمسين من عمره، لكن المعنى لم يذهب معه إلى قبره ولا السجالات حوله خفتت حتى مئويته التي تحل اليوم.

لكل ثورة سياقها التاريخي، وأي كلام خارج هذا السياق تهاويم في الفضاء.

رغم أية محاولات لاصطناع القطيعة بين ثورات مصر، إلا أن كلاً منها تتصل بما سبقها وتؤسس لما بعدها.

في الذاكرة الجماعية «يوليو» هي الثورة التي انحازت وغيرت، قالت وأنجزت، انتصرت وألهمت، انهزمت دون أن تستسلم وحوربت دون أن تفقد بريقها.

في سنوات «يوليو» أطلق «عبدالناصر» أوسع عملية حراك اجتماعي بالتاريخ المصري كله، نقلت أغلبية المصريين من هامش الحياة إلى متنها.

هناك انحيازات تحررية وقومية التزم بها بلا مساومة عليها وكانت نزاهته الشخصية من أسباب رسوخ صورته في التاريخ.

غير أن التناقض كان فادحاً بين اتساع المشروع وضيق النظام.

بشجاعة ومسؤولية راجع أخطاء تجربته التي أفضت إلى هزيمة يونيو/حزيران (1967) في محاضر رسمية، وكان من بينها تغول مراكز القوى في بنية الدولة وانحرافات جهاز المخابرات وتدخل الجيش في غير مهامه الطبيعية مما أفقده احترافيته.

حاور قيادات الحركة الطلابية الغاضبة على أسباب الهزيمة داعياً إلى المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات وصاغ بيان (30) مارس/آذار وفق تطلعاتها للمشاركة في صناعة القرار السياسي.

ساعد ذلك كله أن يقف البلد في وقت قياسي على قدميه من جديد.

أعاد بناء القوات المسلحة، التي دخلت حرب استنزاف امتدت لثلاث سنوات على أسس منضبطة وحديثة، ورفع من منسوب الأمل العام، بما دعا الشاعر السوداني الراحل «محمد الفيتوري» إلى وصف ما حدث بـ«جلال الانكسار». ذلك تعبير يقترب من العبارة الشهيرة التي وصفه بها الشاعر العراقي الكبير «محمد مهدي الجواهري»: «عظيم المجد والأخطاء».. للمجد أسبابه الصريحة وللأخطاء أثمانها الفادحة.

في اللحظة التي قال فيها: «رئيس الجمهورية.. تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية» لامس عمق الوطنية المصرية وكبرياءها الجريحة، كما لم يلامسها أحد آخر في العصر الحديث كله.

وفي اللحظة التي أعلن فيها من الجامع الأزهر الشريف نداء المقاومة «سنقاتل» دخل التاريخ من أوسع أبوابه، وألهم حركات التحرير في العالم الثالث كله.

عندما ولدت زعامته في أتون حرب السويس مضى قدماً في بلورة مشروعه، وأية ثورة بلا مشروع لا تقدر على أية مواجهة ولا تصنع أي إلهام.

بقوة مشروعه اكتسب صفة «آخر العمالقة» بتعبير الكاتب الأمريكي «سيروس سالزبرجر». قوة «عبدالناصر» الكامنة في مشروعه السياسي، لا في ثغرات نظامه، وذلك سوف يعيش طويلاً مئوية بعد أخرى.