ثورات علمية وانهيار للمنظومات الثقافية العربية

حجم الخط

ما الذي أحدثته حقبة التمدين التي أخذت مكانها في منطقتنا العربية، خلال العقود الأخيرة، على المستوى الاجتماعي والثقافي. وهل تبقى شيء من ثقافاتنا القديمة؟ أسئلة تطرحها كل شواهد التحولات الكبرى التي أثرت على طريقة حياتنا وأنماط عيشنا. وهي تحولات شملت العادات والتقاليد والسلوك. وقد بدأت، تأخذ مكانها بشكل تدريجي متجهة باطراد إلى الأعلى،ومع حياة الوفرة الاقتصادية تبدل كثير من عاداتنا الجميلة. لكن ماكنة التاريخ تسير إلى الأمام، لا تمنحنا رفاهية النظر إلى الخلف.

لقد كان من المستحيل أمام انعدام القدرات والإمكانيات المتاحة الآن أن يوفر كل فرد أسباب معاشه، دون أن يكون عضواً فاعلاً في الخلية الاجتماعية التي ينتمي إليها. لم تكن هناك مكننة للزراعة ولا عمالة وافدة، ولا مراكز للدفاع المدني، ولم تكن لدى الناس السيولة النقدية لتوفير حاجاتهم المادية وأسباب معاشهم منفردين. فكان لا بد وأن يتم تنظيم حركة المجتمع على أساس جماعي، من أجل استمرارية الحياة، بشكل أقل عناء ومرارة وكلفة. وكان غياب وسائل الترفيه، ووسائل الاتصال الحديثة يجعل الناس يلجؤون لبعضهم طمعاً في معرفة ما يجري من حولهم. لم يكن هناك مذياع أو هاتف أو تلفاز، ولا وسائل نقل حديثة. 

جاءت وفرة السيولة النقدية، في أرض بكر تتهيأ لتأسيس بنيتها التحتية، فانغمسنا في الحراك الجديد، نلهث وراء ما يمكن تحقيقه من الثراء والجاه. شيدنا منازل جديدة، ورفعنا أسواراً عالية على الأرض وفي النفس. وحدثت تغيرات كبيرة وواسعة في أنماط حياتنا، وبالتالي في طريقة تعاملنا وأنماط سلوكنا. وجاءت وسائل الترفيه لتقضي على البقية الباقية من اهتماماتنا بالمجتمع والناس، فلدينا في البيت ما يغني ويزيد. لدينا الجو المنزلي المريح، ووسائل التكييف التي تجعل حياتنا أكثر رغداً، ولدينا الهاتف والمذياع والتلفاز، والحاسب الآلي، والإنترنت أيضا. وبإمكاننا أداء الكثير من مشاغلنا واحتياجاتنا من داخل المنزل. 

وكلما أصبحت وسائل الترفيه أكثر توفراً ارتفعت العوازل والفواصل وترسخت الأسوار، وتراجعت قيم التعاضد والتضامن والتكاتف.

وإذا كانت هذه التغيرات الدراماتيكية، قد حدثت في العقود الخمسة الأخيرة، قبل ثورة الاتصالات، وانتشار الهواتف المحمولة، ومواقع التواصل الاجتماعي، فإن ما حدث بعدها من تغير في ثقافاتنا وسلوكنا هو أكثر بكثير. 

ولعل الصورة الفاقعة لهذه المتغيرات الكبيرة، تعكسها صورة نشرتها مواقع الخدمة، لعائلة مكونة من أبناء وأحفاد، في زيارة للأم العجوز بمناسبة عيد الأم. تجمع الجميع، ولم يتجمعوا، فالكل منشغل بهاتفه المحمول، ولا أحد يدير وجهه نحو الأم المحتفى بها. هذا المشهد رغم كاريكاتوريته، بات مشهداً عاماً ومألوفاً، ولا يكاد يوجد بيننا من لا يمارسه، بشكل أو بآخر. 

لقد شملت حالة النكوص كل ما له علاقة بالروح وبالوجدان، وعمادهما إنسانياً، الفنون والثقافات. وفي العقدين الأخيرين، أدى انتشار الإنترنت، إلى تراجع دور الكتاب وقرائه. وسادت الضحالة، بسبب تراجع منسوب القراءة، في المجتمع العربي، حيث بتنا، حسب التقييم العالمي من أقل شعوب العالم إقبالاً على الكتاب. 

كانت وسائل الاتصال والتقانة، فيما قبل، مختلفة تماماً، عما هي عليه الآن. فالوسائل محدودة، لكن العطاء في مجالات الفنون والثقافة أعمق وأكثف بكثير. 

وربما تفسر محدودية الوسائل، محدودية الخيارات. فإذا استثنينا، التلفاز، الذي بالكاد يستقبل محطة واحدة، وفي ساعات محدودة تنتهي قبل منتصف الليل، فإن ما يتبقى هو المذياع. وكان في حينه، يشكل العقول. وبالمثل كانت الصحافة محرضاً على الثقافة والوعي. 

لم تكن لدينا وسائل ترفيه، تغني عن الكتاب والصحيفة والمذياع. وكانت حقبة نجوم بامتياز.

لقد أحدث الإنترنت، انقلاباً كبيراً، أدى إلى تراجع دور الكتاب والمجلات والصحف، وبرزت مواقع الخدمة الاجتماعية، محتلة مواقع في كل البيوت، في أجهزة الحاسب الآلي والهواتف المحمولة.

حتى سلوكنا الاجتماعي، تغير، لم يعد طرح المواضيع الثقافية والفكرية من أولوياتنا. وفي ذات الوقت هناك طرق قوي ومباشر على العقول، بما يحقق غسلها، وإضعاف مقاوماتها ونزع هوياتها. لقد كان ما لدينا في السابق، رغم محدوديته، يفعل فعلاً عميقاً في تشكيل الشخصية العربية، بشكل إيجابي، أما الخيارات المفتوحة، فإنها خلقت حالة من الانفلات، والافتتان، بالألوان الصارخة والزاهية، من غير جوهر أو معنى. 

هذه الأوضاع، ترتب مسؤوليات جسيمة على صناع القرار العربي، وتحديداً أجهزة الثقافة والفنون والتربية والإعلام. ليس بالإمكان إعادة عقارب الساعة، فما تحقق هو منجز إنساني كبير، ينبغي استثماره بالطريق الصحيح. لصالح مشاريع التنمية والبناء في منطقتنا، ولخلق واقع جديد يجعلها أكثر وعياً وقدرة وعطاء.