صراعات مراكز القوى.. تجربة مبارك

حجم الخط

قبل سبع سنوات بالضبط تخلى الرئيس «حسني مبارك» مضطراً عن سلطة أمسك بمقاديرها لثلاثين سنة متصلة. كان ذلك حدثاً استثنائياً في التاريخ المصري الحديث، فهو أول رئيس يخرج من السلطة بقوة الثورة على نظامه منذ إعلان النظام الجمهوري. وكان أول رئيس يحال إلى المحاكمات بتهمة قتل المتظاهرين في احتجاجات «يناير» وتهم أخرى واحدة فيها تمس أمانته في التصرف بالأموال العامة. المحاكمات برأته من الأولى وأدانته في الثانية.

بعد نحو عامين ونصف العام تعرض سلفه «محمد مرسي»، المنتمي إلى جماعة «الإخوان المسلمين» في ظروف مختلفة لمحاكمات أدين فيها.

وتاريخياً.. شهدت مصر تحت حكم أسرة «محمد علي» عزلين آخرين.

الأول بنفي الخديوي «إسماعيل» خارج البلاد على خلفية الديون التي تراكمت وتحكم الدول الأجنبية في الموازنة العامة. كان ذلك تمهيداً لصعود نجله الخديوي «توفيق» إلى سدة الحكم وإجهاض مشروعه العمراني واستدعاء الاحتلال البريطاني المباشر لإجهاض الثورة العرابية.

والثاني عزل حفيده «عباس حلمي الثاني» ونفيه بدوره إلى خارج البلاد في ظروف الحرب العالمية الأولى على خلفية عدم ثقة سلطات الاحتلال في ولائه لها، فقد كان صديقاً للزعيم الوطني الشاب «مصطفى كامل»، الذي رحل قبل عزله بأعوام.

انتقال الكلمة الحاسمة في عزل الولاة والحكام من إدارات الاحتلال إلى إرادات الشعب له قيمة تاريخية كبرى يستحيل إنكارها. نفي الإرادة الشعبية يسحب من المجتمع المصري تضحياته وآماله حتى لو بدا أنها قد ذهبت سدى.

لماذا.. وكيف سقط نظام «مبارك»؟

كان السقوط محتماً بأثر الجمود الطويل في السياسات والوجوه.

الجمود الطويل، كما العصبية الزائدة، لا يؤسسان لاستقرار دولة تثق في نفسها ويثق فيها شعبها. كما أن ثورة المعلومات والاتصالات جعلت من المستحيل أن يستقر حكم فرد على رضا عام. وكان السقوط محتماً بغلبة التفكير الأمني على أي تفكير آخر.

لم تكن لدى «مبارك» أية خبرة سياسية يعتد بها تمكنه من إدارة الدولة، وتكفل مستشاره السياسي الدكتور «أسامة الباز» بسد الفراغ قبل أن يستبعد من أية مهمة في سنوات النظام الأخيرة.

في بداية حكمه برزت بجواره شخصيات محنكة مثل رئيس الحكومة الدكتور «فؤاد محيي الدين»، ورئيس مجلس الشعب الدكتور «رفعت المحجوب»، اللذين يمتلكان دراية واسعة بجهاز الدولة وبأساسيات العمل السياسي، التي لا تصح بدونها إدارة دولة.

كانت البدايات واعدة، فقد أفرج عن نحو ألف معتقل من أبرز الشخصيات العامة والسياسية والدينية، كأن البلد وضعت كمادة ثلج فوق رأسها الملتهب.

في سنواته العشر الأولى كان وزير الدفاع المشير «محمد عبد الحليم أبو غزالة» شريكاً حقيقياً بالحكم.

في عام (1986) اضطر «مبارك» لإنزال الجيش لوأد تمرد الأمن المركزي، وقد أعاد «أبو غزالة» السلطة ل«مبارك» بعد إتمام المهمة، على النحو الذي فعله المشير «محمد عبد الغني الجمسي» بأعقاب انتفاضة الخبز يومي (18) و(19) «يناير» (1977).

الجيش المصري ليس انقلابياً. هذه حقيقة لا شك فيها. وقد كان تدخله في «يناير» و«يونيو» محكوماً بإرادة شعبية. كما كان تدخله في ثورتي «عرابي» و«يوليو» لأسباب وطنية محضة.

الأولى رفضاً للتمييز ضد المصريين.. والثانية طلباً للتحرر الوطني من الاحتلال البريطاني.

بتعبير الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، وهو يتابع حركة الأحداث في الأيام الأولى من ثورة «يناير»: «الجيش يعطي ولاءه كاملاً للرئاسات شرط أن تلتزم الشرعية وسلامة البلاد». وقد سجل تلك الرؤية في مقال نشرته صحيفتا «الشروق» و«المصري اليوم» بالتزامن قبل إطاحة «مبارك».

عندما انتقلت الشرعية من «القصر الرئاسي» إلى الشوارع والميادين وقف الجيش بقيادة المشير «محمد حسين طنطاوي» حيث موقعها الجديد.

بأي حساب تاريخي منصف ذلك يحسب له والكلام عن أن «مبارك» تخلى عن السلطة اختياراً لا يستند إلى أي دليل مقنع. لم تكن أمامه أية خيارات غير التخلي عن السلطة. كانت النهايات محتمة والحوادث تمضي إليها قبل سنوات طويلة.

كاد أن ينعزل عن العالم في شرم الشيخ، لا يستمع إلى نداءات التغيير، ولا يلتفت إلى مدى الغضب العام من مشروع «التوريث» الذي امتد إلى داخل المؤسسة العسكرية والمخابرات العامة، بما أفضى إلى مصالحة بعد فتور بين رجليها المتنافسين المشير «طنطاوي» واللواء «عمر سليمان».

لم يكن «مبارك» نفسه مقتنعاً بحكم معرفته بالطريقة التي صعد بها للسلطة أن مشروع «التوريث» ممكن، لكنه تركه تحت ضغط أسرته يتمدد في بنية الإدارة العليا وخياراتها الاقتصادية في زواج معلن بين السلطة والثروة.

في تلك البيئة المحبطة خرجت إلى العلن صراعات مراكز قوى بين الحرسين القديم والجديد، أفضت إلى هز هيبة الدولة والثقة في قدرتها على الوفاء بأبسط مهامها.

الأول - يراهن على تمديد الحكم للرئيس لدورة جديدة في خريف (2011) لقطع الطريق على رجال الوريث ، وأحد الأسباب التي عجلت بالسقوط المدوي عدم إدراكه لأهمية توقيت القرارات، فلكل قرار توقيته. إذا أفلت التوقيت ضاعت فرصته في التحكم بمسار الأحداث.

والثاني - يتعجل نقل السلطة في حياة الرئيس ضاغطاً على أعصاب الدولة رهاناً على قوة الأمن واستعداد اللواء «حبيب العادلي» أن يكون هو وزير داخلية «التوريث».

بالتوقيت نفسه كانت الانتخابات النيابية عام (2010)، التي شهدت تزويراً غير مسبوق في صناديق الاقتراع، بمثابة إغلاق نهائي لأي نافذة أمل في إصلاح النظام من الداخل.. هكذا وصلنا إلى (11) فبراير/شباط وسقط النظام بإرادة شعبه.