عودة إلى سيناء

حجم الخط

أثناء حرب الاستنزاف دعت قوات الاحتلال «الإسرائيلي» شيوخ قبائل سيناء إلى مؤتمر في «الحسنة» حضره وزير حربها «موشي ديان»، بهدف إعلان كيان مستقل يقطع كل الأواصر مع الوطن الأم ويشكك بأحقيته في استعادة أراضيه المحتلة بقوة السلاح.

في ذلك المؤتمر وقف الشيخ «سالم الهرش» متحدثاً باسم رؤساء القبائل: «نحن مصريون والكلام ليس معنا، لمصر عنوان واحد في القاهرة هو رئيسنا جمال عبد الناصر».

بقدر ما أبداه ذلك الشيخ المهيب من حسم أجهض المشروع «الإسرائيلي» لإنشاء «كيان عميل» إلى الأبد. مصرية سيناء في أهلها قبل أي شيء آخر.

أفضل ما ينسب للعملية العسكرية الشاملة الجارية الآن لتقويض تمركزات جماعات العنف والإرهاب انضباطها على قواعد اشتباك تحمي المدنيين من أية أخطار تهدد سلامتهم وحياتهم. وقد كانت هناك مخاوف مسبقة أن تفضي العمليات باتساع نطاقها وقوة نيرانها إلى إضرار فادح بهم.

بقوة الالتفاف حول الجيش تتأكد استحالة نزع سيناء عن الجسد المصري باسم «ولاية» تبايع «داعش»، أو باسم «صفقة قرن» تلحقها ب«غزة الكبرى» مقابل تبادل أراض في النقب.

سيناء قضية وجود، فإذا ما نزعت تحت أية لافتة أو ذريعة تنكفئ مصر خلف قناة السويس وتفقد مناعتها الاستراتيجية بصورة تجعل انهيارها من الداخل أمراً محتماً.

إن تأمين سيناء إلى أقصى حد ممكن يتجاوز ضرورات الحرب على الإرهاب وتقويض جماعاته إلى حفظ سلامة البلد ومستقبله.

هذه مسألة وجودية لا تصح مساجلة فيها، أو خلط أوراق، فمستقبل سيناء هو نفسه مستقبل مصر.

بالنظر إلى أساسيات الأمن القومي المصري، فإن أي رهان على «إسرائيل» خاطئ استراتيجياً وأثمانه باهظة.

وفق المصالح الآنية قد تغض الطرف عن حجم القوات المسموح دخولها سيناء، التي تنص عليها البروتوكولات الأمنية للمعاهدة المصرية «الإسرائيلية». غير أن ذلك لا يمتد إلى أي تعديل في نظرتها الاستراتيجية لسيناء، حيث التهديد الرئيسي المحتمل، ولا لمصر التي تعمل على إضعافها وتهميش أدوارها، أو أن تنكفئ على أحوالها المضطربة.

رغم أية ظلال سياسية يظل الحضور العسكري المصري، بأحجامه وقوة نيرانه وكفاءة تخطيطه ومستويات انضباطه، رسالة هيبة في الإقليم المشتعل بالنيران. الأهم أنه أكد مجدداً عمق ارتباط المصري بجيشه حيث حظيت عملية «سيناء 2018» بالدعم والإسناد من كافة أطياف الحياة العامة والمواطنين العاديين.

بوضوح أهداف العملية حصدت شعبيتها، فالسعي إلى حسم الحرب مع الإرهاب مسألة وجود، كما أنها مسألة مستقبل، فهو يقتل ويروع ويهز سلامة المجتمع ويؤثر بالسلب على حركة الاقتصاد ومعدلات السياحة. 

غير أنه يترتب الالتفات إلى ضرورات ضبط الخطاب الإعلامي على حقائق حروب الإرهاب.

إذا جاز الاجتهاد فإن ما هو مطلوب من العملية العسكرية الجارية ضرب تمركزات جماعات العنف والإرهاب، وشل قدرتها على إلحاق الأذى وترويع المواطنين واستعادة هيبة الدولة وأجهزتها الأمنية في شمال سيناء. هذا التقويض ممكن ويحدث الآن، وهو إنجاز ميداني له ما بعده، أما الحديث عن الاجتثاث الكامل فهو مبكر.

بأي حساب احترازي لا يجب استبعاد ضربة إرهابية هنا أو هناك لإرباك الروح المعنوية والتشكيك في حجم الإنجاز الذي تحقق خاصة بعد أن تتوقف العمليات العسكرية والأمنية، التي تشمل شمال سيناء والظهير الصحراوي الغربي والحدود البحرية والمدن الكبرى ومناطق واسعة في الدلتا.

كان الخطأ الأكبر في المعالجات الإعلامية أثناء حرب تقتضي توسيع التماسك الوطني إلى أقصى حد ممكن، استغراقها في التوظيف السياسي الزائد، كأنها حرب نظام وليست حرب بلد بأسره.

هناك فارق جوهري بين التوظيف السياسي الزائد والأثر السياسي الطبيعي. الأول، من أعمال الدعاية كأن الحرب أجريت لأسباب أخرى غير مجابهة الإرهاب. 

بقوة الدستور اكتسبت عملية سيناء شرعيتها الكاملة. وفق نصه: «القوات المسلحة ملك الشعب، مهمتها حماية البلاد، والحفاظ على أمنها وسلامة أراضيها».

بالتعريف الدستوري فإن شرعية السلاح لا تنعزل عن غيرها من الشرعيات وأهمها التزام الحريات العامة وحقوق المواطنين وقواعد دولة القانون والمؤسسات.

إذا كانت الكتل الأساسية في المجتمع، على اختلافاتها وتنوعها، تؤيد بلا تحفظ الأعمال العسكرية والأمنية الجارية في الحرب على الإرهاب، فما معنى التوغل في تصفية الحسابات وشيوع أجواء الترويع فوق الرؤوس؟ الصمت تحت الترويع مشروع انفجار مؤجل. إلغاء التنوع سحب من رصيد أي استقرار.