حمزة الذي لا تعرفه

حجم الخط

هذه هي النهاية والأمر لله!. ليس في كل ماضينا المجيد موقف كهذا!! . بلى، كأيام سعد، ولكنها النهاية!».

هكذا بدت الصورة في رواية «السمان والخريف» ل«نجيب محفوظ» لحظة إلغاء زعيم «الوفد» «مصطفى النحاس» باسم الشعب اتفاقية (١٩٣٦) في أكتوبر (١٩٥١)، التي وقعها بنفسه.

بحس روائي أدرك «محفوظ»، على لسان شيخ معمّم عضو في مجلس الشيوخ، أن إلغاء الاتفاقية نذير نهاية، رغم أنها لحظة مجد.

بتوصيف تاريخي فإنه «أخرج المارد من القمقم، الذي أجهز على ما بقي من النظام القديم، ولم يكن بوسع أحد أن يعيده حتى الوفد نفسه» وفق شيخ المؤرخين الراحل الدكتور «يونان لبيب رزق».

بإلغاء الاتفاقية انفسح المجال واسعاً أمام القوى الوطنية الشابة لحمل السلاح في منطقة قناة السويس، وكان «الضباط الأحرار» في قلب المشهد التاريخي، ساعدوا بقدر ما استطاعوا على تدريب الفدائيين وشاركوا بأنفسهم بقدر ما هو متاح في قتال قوات الاحتلال واستهداف معسكراتها.

كانت تجربة الفدائيين واحدة من أهم ملامح الجديد الذي يولد. تجاوزت عملياتهم ضد معسكرات الاحتلال البريطاني في الإسماعيلية والقصاصين والتل الكبير، أي أعمال فردية سابقة شهدتها شوارع القاهرة من مهاجمة جنود بريطانيين والاستيلاء على ما لديهم من أسلحة وذخائر.

بتداعي الحوادث جرت مواجهة مسلحة في الإسماعيلية يوم (٢٥) يناير (١٩٥٢) بين قوات بريطانية على درجة عالية من التسليح وقوات أمنية مصرية قاومت أوامر الاستسلام وقاتلت ببسالة في ظروف شبه مستحيلة، فاستشهد (٤١) ضابطاً وجندياً وأصيب (٧٢) آخرون.

في اليوم التالي (٢٦) يناير أحرقت القاهرة، وأنزل الجيش إلى الشوارع لضبط الأمن، وعزلت حكومة «الوفد» وجرى تعقب الفدائيين والقبض عليهم وصودرت أسلحتهم، التي أمكن الوصول إليها. إثر تلك الاعتقالات توقفت عمليات الفدائيين ضد المعسكرات البريطانية، لكن بعد أشهر قليلة كان الرد مدوياً بما جرى يوم (23) يوليو.

باستثناء أعمال أدبية شحيحة وشهادات متناثرة لم تكتب قصة هذا الجيل كما تستحق. أهم تلك الأعمال قصة قصيرة كتبها «يوسف إدريس» ضمن مجموعة «جمهورية فرحات» حملت اسم «قصة حب». لم تكن قصة حب اعتيادية في وقت تتقارب فيه احتمالات الموت مع فرص النجاة،

ربما لهذا السبب، عدّل «صلاح أبو سيف»، ابن نفس الجيل والتوجهات، اسم الشريط السينمائي، الذي أخرجه عام (١٩٦٣) عن قصة «يوسف إدريس»، إلى «لا وقت للحب» مجسداً لحظة فارقة في التاريخ المصري بكل تضحياتها ومشاعرها.

لم يكن أحد تقريباً يعرف أن القصة حقيقية وبطلها شاب يدرس الطب في جامعة الإسكندرية، قبل تخرجه عام (١٩٥٣)، اسمه «حمزة محمد البسيوني» رحل قبل أيام في صمت ونعته أسرته في صفحة وفيات بكلمات مقتضبة.

لم يكن أبرز الأسماء التي ارتبطت بحرب الفدائيين، ولا سُجّلت له أدوار مهمة في الحياة العامة على مدى عقود طويلة، لكن قوة الأدب والفن أسبغت على قصته إلهاماً يتحدى تجريف الذاكرة.

قصة «حمزة»، الذي لا تعرفه، هي قصة واحد من أفضل الأجيال المصرية في التاريخ الحديث حلم وبذل وضحى دون أن ينتظر ثمناً.

كاد أمير القصة العربية القصيرة أن يتماهى مع بطله حين استمع إلى تجربته بأدق تفاصيلها السياسية والإنسانية داخل زنزانة واحدة ضمتهما في معتقل أبو زعبل عام (١٩٥٤) إثر الصدام بين ثورة «يوليو» وتنظيم «حدتو» اليساري.

وقد أدخل المعتقلات مرات أخرى في عهد «أنور السادات». قرب رحيله أدلى بتصريحات صحفية، بدا لافتاً فيها ما قاله عن «جمال عبد الناصر»: «رغم اعتقالي لخمس سنوات في عهده إلاّ أني ما زلت أحبه».

في ظلال القصة تساؤلات عما إذا كان التقى «عبد الناصر» أثناء تدريب الفدائيين، أو وصل إلى علمه ما وراء الضباط الشبان الذين كانوا يشاركونهم عمليات القتال.

كان الصدام مبكراً بين«يوليو» و «حدتو»، التي انتسب إليها واقترب منها «يوسف إدريس» و«صلاح أبو سيف» على خلفية إعدام العاملين «خميس» و«البقري» يوم (١٣) أغسطس (١٩٥٢) إثر احتجاجات لحقتها اضطرابات في مصانع «كفر الدوار».

باليقين فإنه حكم جائر وافق على تنفيذه مجلس قيادة الثورة بتوقيع رئيسه اللواء «محمد نجيب»، فيما اعترض ثلاثة بالاسم والتحديد هنا ضروري: «خالد محيي الدين» و«يوسف صديق» و«جمال عبد الناصر».

الاسمان الأوّلان ينتميان تاريخياً إلى «حدتو»، التنظيم اليساري الذي نظم الإضراب، فيما كانت دوافع «عبد الناصر» سياسية وأخلاقية، فقد كان يجفل حسب روايات وشهادات عديدة من إضفاء طابع دموي على الثورة، فالدم يجلب دماً.

هكذا ذهب «حمزة» إلى المعتقل في عصر حلم به وقاتل من أجله ودافع عنه بعد أن انقضت أيامه. وعاش في الظل السياسي وتفرغ تقريباً لقضيته كطبيب يعنيه الفقراء وحقوقهم في تأمين صحي حقيقي.

ترى ماذا كان مصير «شكري»، الذي وشى في العمل الدرامي ب «حمزة» ورفاقه من الفدائيين للبوليس السياسي؟ على الأغلب دون أن تكون هناك معلومات أنه صعد في سلطة جاءت بها ثورة خانها.

حدث ذلك كثيراً، ف«الثورات يصنعها الشجعان ويجنيها الجبناء» كما قال ذات مرة «ارنستو تشي جيفارا».