حول جمهورية "إسرائيل" الفاضلة

حجم الخط

نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية قبل أيام مقابلة مطولة مع سبعة من رؤساء جهاز "الموساد" السابقين, حيث كان النقاش يتمركز حول واقع إسرائيل بعد سبعين عاماً على إنشائها, وأبرز التحديات الماثلة أمامها وأهم المخاطر التي تهدد وجودها, واللافت للانتباه أن قادة "الموساد" السبعة أجمعوا على أن دولة إسرائيل في حالة موتٍ سريري, والتوصيف الدقيق كما عنونته الصحيفة أن الدولة في وضعٍ ميئوس منه, أما السبب فيعود إلى تآكل المنظومة القيمية والأخلاقية لدى قادة إسرائيل.

وقد جاءت أقوال مسئولي الموساد على خلفية الملاحقات القضائية لرئيس الحكومة "بنيامين نتنياهو" حول الفساد, ومن قبله "أولمرت" و"كتساف" فضلاً عن عدد كبير من الوزراء والموظفين الحكوميين, وكذلك الفساد والانحطاط القيمي والأخلاقي المستشري في أركان الدولة والحكومة وهو ما يعكس نفسه على المجتمع في ظل قيادة فاسدة منشدة لمصالحها الخاصة على حساب مصلحة الدولة كما يرى قادة "الموساد".

وما يثير الاستغراب أن قادة الموساد السابقين ربطوا تدهور أحوال الدولة بفساد القادة السياسيين, ولم يعالجوا أي فسادٍ أو أمراضٍ من نوعٍ آخر باتت تتفشى في الدولة والمجتمع العبري, ونحن لا نتوقع من قادة "الموساد" معالجة المسألة الأخلاقية والقيمية من زاوية فلسفية أو فكرية؛ لأن المعايير التي ينطلقون منها لا علاقة لها بالمنظومة الأخلاقية والقيمية المتعارف عليها عالمياً, كما أن جهاز الموساد ليس جمعية خيرية ومدرسة فلسفية وإنما جهاز استخبارات له وظيفة غير أخلاقية بالأساس وممارساته وأنشطته معروفة للجميع، وبالتالي فإنه من العبث مناقشة آراء قادة الموساد حول المسألة الأخلاقية, كما أننا لم نتوقف أمام مزاعم إسرائيل بامتلاكها منظومة قيمية وأخلاقية تتباهى بها بين الأمم؛ لأنه من السخرية أن نتوقف أمام هذه المزاعم لتثبيتها بعد أن باتت ممارسات إسرائيل على الأرض تتنافى تماماً مع مزاعمها حول أخلاقية سياساتها, وما أراد قادة "الموساد" تصويره ليس أن فساد القادة السياسيين يُسيءُ ويلطخ سمعتها الأخلاقية في العالم فحسب وإنما يعبر عن حالة انفصام وعمى الألوان الأخلاقي الذي يصيب هموم المجتمع العبري, كما أننا لن نتناول المزاعم الأخلاقية في إسرائيل من زاويتنا نحن كفلسطينيين بوصفنا أعداء لهذه الدولة الفاضلة, وبالتالي فإن ما سنقوله عن إسرائيل سيبدو أنه غير موضوعي ويأتي من جهة معادية, مع أن بمقدورنا أكثر من غيرنا تثبيت هذه المزاعم لأننا ببساطة نحن من نتعرض لممارسات هذه الدولة ونفهم بوضوح معنى المنظومة القيمية الأخلاقية التي لا تمت بأي منظومة أخلاقية إنسانية بصلة, ولكننا سنتناول ما يضيفه الإسرائيليون أنفسهم عن دولتهم ومزاعمها، ولكن قبل ذلك من حقنا أن نتساءل من باب الفضول فحسب, إذا كانت العنصرية والفاشية المتفشية في هذه الدولة هي جزء من منظومتها الأخلاقية؟ وإذا كان القتل وسرقة الأرض والأكاذيب وتزوير الحقائق وسياسة التجويع والحصار وقتل الأطفال والتطهير العرقي واقتلاع الأشجار وغيرها الكثير من الممارسات ... هل تدخل أيضاً في صلب منظومتها القيمية والأخلاقية؟ أم أنها ممارسات عارضة وغير متأصلة في بنيتها؟

وإذا كانت هذه التساؤلات تأتي من جانبنا كفلسطينيين معادين لهذه الدولة فلنتفحص جزءاً من الكتابات والتعليقات الإسرائيلية العديدة التي اشتهرت في السنوات الأخيرة, وهي لا تنتقد ممارسات إسرائيل التي تتعارض مع إدعاءاتها الأخلاقية فحسب، وإنما تنسف تماماً هذه الإدعاءات, بل وتميط البناء عن وجهها الأخلاقي الزائف, وحتى لا نغرق بعشرات النصوص والكتابات الصادرة عن ساسة ومفكرين ومؤرخين وأُدباء إسرائيليين سنكتفي ببعضها وسنبدأ أولاً مع رئيس الكنيست السابق "أبراهام بورغ" وأحد قادة حزب "العمل" السابقين, وما يلفت الانتباه في كتابه المعنون (لننتصر على هتلر) إنه يحذر من العنصرية والإجرامية المتفشية في إسرائيل, داعياً للكف عن استخدام "الهولوكوست" وتقمص دور الضحية, لأن ممارسات إسرائيل فاقت أي ممارسات بل وتفوقت على الممارسات النازية, ويقول "بورغ" في كتابه سالف الذكر: (ثمةَ في إسرائيل طبقات ومستويات رهيبة من العنصرية لا تختلف بجوهرها عن تلك التي أبادتنا, نعم قريبة جداً ولذلك لا نراها دائماً).

إن هذا النص يلخص رؤية "بورغ" في دولة إسرائيل, فالطبقات والمستويات الرهيبة من العنصرية كما وصفها متجسدة سواء داخل المجتمع الإسرائيلي ذاته المنقسم أفقياً وعمودياً, أو من خلال ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب أو حتى من خلال علاقاتها مع العالم, فإن تصورات إسرائيل لذاتها وممارساتها بحق الآخرين تنطوي على ممارسات عنصرية شبيهة بالممارسات النازية.

فـ "أبراهام بورغ" لا يرى أية فارق من حيث الجوهر بين ما اقترفه النازيون بحق اليهود وبين ما تقترفه إسرائيل بحق الفلسطينيين والعرب إلى حدٍ يراها "بورغ" أنها متطابقة, ويضيف "بورغ" في مكان آخر من كتابه (إنها دولة تحمل في داخلها عنصرية توراتية مكشوفة تؤيدها وتدعمها بصورة عملية حلقات نشطة وصامتة من التقليديين المؤمنين بأن هذه هي اليهودية الصحيحة) و"بورغ" رجل متدين وليس علمانياً وهو يتبنى يهودية من نوع مختلف تتعارض مع اليهودية الأرثوذكسية السائدة في إسرائيل, وبوصفه رجلاً متديناً فهو يعرف التوراة وأسفارها العنصرية وما تنطوي عليه من ثقافة الإبادات وأبرزها سفر "يشوع" الذي يصدح بالروح الإجرامية البهيمية والتباهي بالإبادات الشاملة بحق الكنعانيين, حيث أن هذا السفر من النصوص المقرة في المدارس الإسرائيلية وكذلك في الجيش, وبوسعنا أن نتخيل طبيعة الأجيال التي تتربى على هذه الروح الهمجية في أهم مؤسستين في إسرائيل "التعليمية والعسكرية".

ويستخدم "بورغ" لغة المجاز بإحضار قصة "قابيل وهابيل" الواردة في التوراة قائلاً: (حقاً لم نعد هابيل الذي يُقتل دائماً بأيدي إخوانه أبناء البشر الآخرين, وذلك بسبب القوة التي نمتلكها وبسبب تغير المعايير العالمية), إذاً انقلبت الأدوار وتحول "هابيل" من ضحية إلى قاتل بامتلاكه لأدوات القتل, وهكذا فإن اليهود الضحايا والمضطهدون في التاريخ تحولوا إلى جلادين, ويتساءل "بورغ" قائلاً: (ألا نتفق على أن روح القابلية قد تزايدت مؤخراً في نفس اليهودي؟!), إن هذه المقاربة خطيرة وهي تصور الروح البهيمية المتوحشة, وقد باتت متفشية في إسرائيل.

ولعل ما ارتكبته إسرائيل في تاريخها من مذابح وحروب عدوانية باتت تتزايد مع الوقت, وكان آخرها ما جرى على حدود قطاع غزة قبل أيام حين فتحت قواتها النار بشكل عشوائي على المتظاهرين المدنيين فقتلت العشرات وأصابت المئات.

ويلخص "بورغ" رؤيته بالقول: (على سياسة إسرائيل أن تكون منسجمة مع منظومة القيم التي تدعي امتلاكها), ووفقاً لهذه الرؤية فإن إسرائيل تزعم امتلاكها لمنظومة أخلاقية ولكنها منفصلة عنها وممارساتها معاكسة تماماً لهذه المزاعم.

أما "يهودا شنهاف" في كتابه "مصيدة الخط الأخضر" فقد انتقد هو الآخر ممارسات إسرائيل وادعاءاتها الزائفة, داعياً إسرائيل لإنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية والكف عن سياساتها التي تتنافى مع مزاعمها بوصفها دولة ديمقراطية متحضرة ولديها منظومة أخلاقية تتفاخر بها, حيث يقول في كتابه: (ظهرت انتقادات دولية وعالمية بما في ذلك في أوساط مفكرين يهود, مفادها أن الصهيونية التي كان هدفها الأصلي والمشروع في حينه حل مشكلة اليهود في أوروبا تحولت إلى مشكلة بالنسبة لليهود أنفسهم, وليس فقط لأن إسرائيل أصبحت أحد الأماكن الأقل أمناً وأماناً, وإنما بالأساس لأن هذه الصهيونية تحولت من حركة سياسية عادلة في زمنها إلى آلة حرب مدمرة تبرر عدم أخلاقياتها بادعاءات ومزاعم واهية وتخلق لنفسها حالة من التحجر والجمود الفكري).

فكما يرى "شنهاف" فإن الصهيونية قد تحولت من حركة تسعى لحل المسألة اليهودية المتفاقمة إلى دولة مدججة السلاح تخوض حروباً عدوانية على شعوب المنطقة ولا تزال تتقمص دور الضحية وتدعي أن حروبها أخلاقية وهو ما يجعل منها دولة مصابة بانفصام تبرر لنفسها أية أفعال أو سياسات حتى وإن وقفت وحدها في مجابهة الانتقادات العالمية.

ولعل أبرز الأمراض المستفحلة في إسرائيل هي الاستمرار في تقمصها لدور الضحية من خلال توظيفها للموروث التاريخي اليهودي أو الأحداث التاريخية القريبة كــ"الهولوكوست" التي باتت حاضرة في كل مناحي الحياة, حتى تحولت إلى عقدة مرضية يستعصِ الفكاك منها, وننقل هنا نصاً ورد في كتاب "فكرة إسرائيل" للمؤرخ الإسرائيلي "إيلان بابيه" وهو خاص بالمثقف الإسرائيلي "بواز أيفرون" الذي كتب مقالاً في إحدى الصحف قبل سنوات طويلة يقول فيه: (إن عملية تخليد فكرة الهولوكوست في إسرائيل مسئولة عن خلق حالة من البارانويا بين الإسرائيليين والعمى الأخلاقي, مما يفرض خطراً على الأمة ويمكن أن يتولد عنه توجهات عنصرية نازية في إسرائيل نفسها).

إن هذا النص المكثف يلخص الحالة الإسرائيلية التي تعاني بعمومها حالة "البارانويا" بسبب احتكارها لـ"الهولوكوست" وتقمص دور الضحية وهو ما سبب أيضاً نوعاً من العمى الأخلاقي جعل من إسرائيل تبرر لنفسها أية ممارسة وتراها أخلاقية ومشروعة, وبسبب عقدة "الهولوكوست" أعطت إسرائيل لنفسها الحق بارتكاب أي فعل ورسمت لذاتها معايير أخلاقية خاصة بها تتنافى تماماً مع المعايير الأخلاقية العالمية.

أما " يهودا الكانا" وهو أحد الناجين من "الهولوكوست" فقد قال هو الآخر منتقداً الاستمرار في استخدام "الهولوكوست" لتبرير ممارسات إسرائيل: (إن الأمر قد يصل باليهود الإسرائيليين حد تقليد أسوأ أعدائهم, وهذا ما يمنح هتلر نصراً مأساوياً ينطوي على مفارقة كبيرة).

 إن هذا المفكر الناجي من المحرقة لا يرى أية فارق بين ممارسات النازية التي لامسها عن قرب وبين ممارسات إسرائيل التي رآها عن قرب أيضاً, فالضحية باتت تقلد الجلاد بل وتتفوق عليه.

وقد تزايدت في الأخيرة الانتقادات في الأوساط الفكرية والثقافية والأكاديمية والإعلامية وحتى السياسية المحذرة من تفشي الروح البهيمية والإجرامية والعنصرية في إسرائيل, وقبل أيام وفي أعقاب المذبحة التي نفذتها القوات الاحتلالية بحق المتظاهرين على طول السياج الزائل شرق قطاع غزة وجهت انتقادات إلى الحكومة الإسرائيلية على استخدام العنف المفرط بحق المتظاهرين صدر من بعض الأوساط الإعلامية والثقافية والسياسية، إلا أن الحكومة سارعت بإخماد هذه الأصوات في محاولةٍ لإسكات أي صوت ناقد لممارساتها, وهو ما أثار مخاوفاً من تآكل الديمقراطية الداخلية وقمع حرية الرأي والتعبير واستخدام لغة التهديد بدلاً من النقاش, الأمر الذي سيؤدي إلى إجهاض أية إمكانية لانتقاد إسرائيل من الداخل.

وبالعودة إلى مقاربة رؤساء "الموساد" السابقين حول تآكل المنظومة القيمية والأخلاقية لدى قادة إسرائيل, وهو ما يشكل خطراً على مستقبلها وكأن رؤساء "الموساد" جزء من هذه المنظومة الأخلاقية المزعومة, لأنهم مصابون بـ "البارانويا" وعمى الألوان الأخلاقي, إنه لن يكون بمقدورهم رؤية ما يجري من استفحال للانحطاط القيمي والأخلاقي السائد في إسرائيل, أما ما رأوه من فساد القادة السياسيين ما هو إلا السطح, والحقيقة أن هذا الفساد إنما هو انعكاس لفساد الدولة والمجتمع على حدٍ سواء, وكما يقول الشاعر "أحمد شوقي": (باطن الأمة في ظاهرها إنما السائل من لون الإناء).