تناقضات الداخل الفلسطيني وضرورات التوحد

حجم الخط

تشهد الساحة الفلسطينية جدلا واسعا يطال كافة جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتنقسم فيها الرؤى والمواقف إلى اصطفافات تعبر عن المصالح التي تمثلها كل مجموعة سواء كانت حزبا سياسيا أو حركة اجتماعية أو مبادرة شبابية أو حركة احتجاجية   .ويعكس هذا  التنوع في الرؤى والبرامج والسياسات والتجمعات الاجتماعية على اختلاف مسمياتها حيوية المجتمع الفلسطيني تعبيرا عن وجود مصالح اجتماعية متناقضة كامتداد طبيعي لحالة إنسانية طالما تأثرت بمعطيات الواقع المعاش وتفاصيل الصراع الممتد منذ أكثر من مئة عام والتي كان ولا زال لها الأثر الكبير على بنية المجتمع الفلسطيني الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .

           ولعل عشرات السنين الأخيرة ومنذ توقيع اتفاق أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية وما واكبها من تغيرات على البنية الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتي تتكثف اليوم بمعطيات سياسية وسيادة مفاهيم وعلاقات متناقضة ومتعارضة مع مسار تطور النضال الوطني الفلسطيني التحرري الذي مثله ينبوع العطاء والتضحية والإصرار المتواصل لجماهير شعبنا على مدار سنوات الصراع الطويلة والتي لا زالت قائمة ولا زال شعبنا يقدم الأرواح والمزيد من صور الإبداع الكفاحي في مواجهة كل محاولات كسر الإرادة الفلسطينية وثنيها عن مواصلة نضالها حتى تحقيق الأهداف الوطنية الثابتة وهي حق العودة وحق تقرير المصير والدولة الفلسطينية المستقلة عاصمتها القدس .

           وفي سياق هذه التحولات والتناقضات القائمة التي تأخذ امتدادات وأبعاد عربية وعالمية ارتباطا بما يحدث على المستوى العربي والعالمي ..... كان لا بد لنا كفلسطينيين أن نحدد أولوياتنا  واليات إدارة صراعنا مع المحتل بما يخدم قضايانا الوطنية التي تنسجم بشكل موضوعي مع كل ما هو إنساني وتقدمي عربيا وعالميا , وهذا يستدعي العمل على سيادة مفاهيم العمل الديمقراطي في معالجة التناقضات الداخلية والبحث عن قواسم العمل المشترك التي تنطلق من أن تناقضنا الرئيسي كفلسطينيين لا زال مع الاحتلال وكل من يحيط به ويدعمه ويغذي بقاءه واستمراره , سواء كان بمحاولات الإقرار بوجوده والتعامل معه كحالة طبيعية بل والانتقال إلى حد اعتباره شريكا للعديد من القوى الرجعية في مواجهة أزماتها وصراعاتها الموهومة والتي لا تعبر إلا عن مصالح استمرار بقاء أنظمة بالية أكل عليها الدهر وشرب واستنفذت كل مبررات وجودها , أو حالة الاصطفاف الرأسمالي العالمي الذي ترتبط عضويا مصالحه في المنطقة العربية بوجود وبقاء دولة الكيان الصهيوني "إسرائيل" وسعيها الدائم لتمرير صفقات سياسية تنتقص من حقوق شعبنا وتخدم معالجة أزمات الاحتلال والتي تتمحور طابعها الوجودية أمام تصاعد روحية المواجهة وعجزها عن تمرير التعامل مع الكيان الصهيوني كحالة طبيعية .

        أمام كل ما تقدم يبدوا المشهد الفلسطيني متناقضا ويعيش حالة من الانفصام لا تعكس حقيقة وطبيعة الشعب الفلسطيني وروحه المقاومة التي لم تتوقف يوما ولم تحيد بوصلته على الرغم من كل ما يعانيه من ويلات إجراءات المحتل بالحصار والاستيطان وعنصريته وفاشيته من ناحية . ومن مجمل تناقضات الوضع الفلسطيني الداخلي من انقسام وتغييب المؤسسات والعقل الجمعي لإدارة شؤونه الداخلية وفرض سياسات اقتصادية واجتماعية منحازة لصالح رأس المال الخاص على حساب الأغلبية الساحقة من جماهير شعبنا وتحميلهم أعباء وتكاليف استمرار وجود مؤسسات السلطة على اختلافها بعد أن أخذت مصادرها التمويلية الخارجية بالجفاف أو التحكم بها لفرض المزيد من التنازلات السياسية في أحسن الأحوال .

       هذا إضافة إلى العمل على اختراع صراعات وأولويات سياسية بعيدة كل البعد عن أولويات النضال الوطني الفلسطيني والعمل على معالجة أزماته الداخلية .

والأكثر تعقيدا ومما يساهم في خلق المزيد من الأزمات الداخلية هو مستوى الخطاب الهابط في مواجهة ومعالجة الإشكالات القائمة والتي لا تعكس إلا روحية نابعة عن مصالح ضيقة لا تخدم إلا أصحابها وأجنداتهم والتي تسعى لتقديم المصالح الخاصة على المصالح الوطنية العامة . وهو في نفس الوقت يعكس هيمنة وسيطرة شرائح اجتماعية نشأة في سياق تغيرات أوسلو وما واكبها من مستجدات على البنية الاجتماعية الفلسطينية وقد تكون في كثير من الأحيان غريبة عن معمعان الكفاح الوطني وتفاصيل أبجدياته بكل ما فيها من تضحيات وعطاء وصمود وإصرار على استمرار مقاومة المحتل حتى نيل الحقوق الوطنية .

           إن كل ما تقدم يستدعي من كل الوطنيين أصحاب مشروع النضال الوطني والحريصين على حماية التراث الكفاحي للشعب الفلسطيني الأخذ بزمام المبادرة والانطلاق باتجاه معالجة كافة الأزمات الداخلية وبما يخدم النضال الوطني الفلسطيني المنسجم مع تطلعات وأمال شعبنا بالحرية والاستقلال . حيث لا زالت عوامل الوحدة أوسع وأكبر من كل التناقضات . فثوابت العمل الوطني المتمثلة بحق العودة وحق تقرير المصير والدولة المستقلة عاصمتها القدس لا زالت تمثل برنامجا وطنيا متماسكا لم تنال منه كل محاولات حرفه أو التنازل عنها وهو الناظم لكل فعل وطني . وان المواجهة مع الاحتلال ورفض الحلول المقدمة والتي تنتقص من حقوقنا الوطنية لا زالت قائمة وتمثل حالة إجماع فلسطيني . وان كانت الرؤية حول آليات وسبل المواجهة تمثل حالة خلاف وجدل فلسطيني إلا أن الوجهة العامة تتمسك بحق الشعب الفلسطيني في مواجهة المحتل وكافة المشاريع التي تنتقص من حقوقه المشروعة .

         وكذلك فان منظمة التحرير الفلسطينية تمثل حالة إجماع لدى كافة القوى باعتبارها الكيان السياسي الجامع لكل مكونات الشعب الفلسطيني رغم كل ما يثار حول بنيتها واليات عملها والتي تحتاج إلى عملية نضالية داخلية مستمرة . فهي لا زالت تنال أكبر إجماع فلسطيني . إضافة إلى إقرار الكل الفلسطيني بحساسية الوضع القائم على المستوى العربي والعالمي ومحاولات تمرير صفقات سياسية كبرى أبرزها ما أطلق عليه "صفقة القرن" وضرورة مواجهتها الأمر الذي يستدعي توحيد الشعب وقواه الحية .

          إن ما يحدث فلسطينيا من تناقضات وصراعات وإجراءات لا تليق بمحورية ومكانة قضيتنا الوطنية ولعل أول خطوة على هذا الصعيد تتمثل بضرورة صياغة رؤيا توحد الشعب وقواه الحية بعيدا عن روحية النزق والارتجال والانفعال والتماهي مع أصحاب المصالح والأجندات الخاصة . وعلى الرغم من كل ما يحدث فلا زالت إمكانيات وفرص العمل الوحدوي قائمة وممكنة لكنها تحتاج الى عناوين وأدوات منسجمة مع ذاتها ومؤمنة بضروراتها .