الإرهابيون الجدد: نصف الحقيقة الآخر

حجم الخط

ننسى ـ أحيانا ـ أن ننظر فى المرآة لنرى كيف تبدو صورتنا فى عيون الآخرين على الجانب الآخر من المتوسط.

نسأل دون أن يكون هناك صدى ما لما نحتج عليه: لماذا لا يبدون تعاطفا حقيقيا مع ما نعانيه من إرهاب، رغم نزيف الدماء وفداحة التضحيات؟

قد يقال إنها «الإسلاموفوبيا»، التى زادت وطأتها بنظرات ريب وشك ومشاعر كراهية واستعلاء لدى قطاعات متزايدة فى المجتمعات الأوروبية.

هذه نصف الحقيقة، التى تتجاهل مسئوليتنا عن تفشى تلك الكراهية.

قد يقال إنها «المؤامرة» على المنطقة العربية للعمل على تفكيكها وضرب أية احتمالات لأن تنهض من جديد.

هذه نصف حقيقة أخرى، فالمؤامرات أيا كانت لا تفسر وحدها الخلل الفادح فى بنية المجتمعات والنظم والسياسات، التى جعلت ممكنا أن نصل إلى النقطة التى نحن فيها.

قد يقال إنها «حرب الحضارات»، وأن الحوار وحده كفيل بتجاوزها وصولا إلى تفاهم ووئام.

وهذه نظرية أثبتت إخفاقها فى تحسين صورة العرب والمسلمين، كأنها دائرة كلام مغلق لا تغير شيئا فى النظرة السلبية العامة، التى أفضت إلى غياب أى تعاطف مع ما نتعرض له من محن حروب وآلام تفكيك.

إذا ما نظرنا فى مرآة الحقيقة، فإننا أمام حالة تلازم بين التطرف باسم الإسلام عنفا وإرهابا والتطرف باسم كراهية المهاجرين والأقليات العربية والإسلامية إنكارا لأية قيم إنسانية حديثة.

بالأرقام الرسمية استقبلت دول الاتحاد الأوروبى نصف مليون لاجئ عربى خلال عام (٢٠١٧) أغلبهم سوريون.

الهجرة غير الشرعية صداع مزمن فى رأس أوروبا والعمليات الإرهابية فى حواضرها أدت إلى زيادة نفوذ اليمين الشعبوى بكافة أطيافه المتطرفة.

تلك مسألة تهدد فى الصميم مستقبل القارة وإرثها الإنسانى والحضارى وبنيتها الديمقراطية.

يتحمل الأوروبيون قسطهم من مسئولية عجز السياسات عن إدماج الجاليات العربية والإسلامية وما يجرى بحقهم فى الضواحى الفقيرة من تهميش اجتماعى وثقافى وإنسانى.

نصف الحقيقة الآخر أن قطاعا كبيرا نسبيا من تلك الجاليات ينظر إلى الثقافة الغربية باعتبارها سموما يجب تجنبها بالانعزال، دون أن نفعل شيئا جديا لإصلاح الخطاب الدينى.

هناك ـ الآن ـ مراجعة ما للسياسات والمواقف الأوروبية داخل المؤسسات العسكرية والأمنية ومراكز التفكير ومساجلات منشورة بأوراق بحث فى تطورات ظاهرة الإسلام السياسى العنيفة.

المراجعات ترسم بقدر ما تستقصى الخرائط الجديدة لجماعات العنف الناشئة، وفيما تختلف عن الجماعات التى خرجت من رحمها وانشقت عليها، وتمسح بأعلى قدر من المعلومات مستويات تسليح الجماعات الناشئة وبنية أفكارها ومدى تأثيرها المحتمل على استقرار النظم الحالية.

لا توجد مثل هذه المراجعات هنا، رغم أننا نحتاجها لسد الثغرات السياسية والاجتماعية والأمنية التى تسمح بتمركز الإرهاب وجماعاته.

العمل البحثى الاستقصائى من ضرورات بناء السياسات والاستراتيجيات، أو إعادة صياغتها بناء على التحولات والمتغيرات.

المثير أن أغلب المعلومات، التى تستند إليها مجموعات الأوراق الأوروبية، متوافرة بدقة مماثلة لدى عدد من الباحثين المصريين، لكنهم شبه مستبعدين من أى نقاش يوفر بيئة علمية لازمة لتطوير الأطروحات والاستنتاجات وبناء الاستراتيجيات والسياسات.

حيث يغيب أهل الاختصاص، يتصدر شاشات الفضائيات أهل الصراخ.

هذه مأساة ـ بذاتها ـ فى بلد مثل مصر يطلب تخفيض فاتورة الإرهاب إلى أكبر درجة ممكنة، حتى يمكنه التعافى والتطلع إلى المستقبل بثقة.

كيف نفكر؟ ـ ذلك موضوع تتبع فى مراكز الأبحاث وصنع القرار الأوروبى فى مؤسساته السياسية والأمنية والعسكرية والمساجلات شبه معلنة.

كيف يفكرون؟ ـ ذلك موضوع تجاهل والمساجلات فى السياسات والاستراتيجيات شبه غائبة.

إذا لم ننظر إلى كامل الصورة فى مرآة الحقيقة فلن نعرف: لماذا لا يتعاطفون معنا فى قضية يعانون منها كما نعانى؟

فيما تتضمنه المراجعات بحث مستقبل جماعة «الإخوان المسلمين»، أقدم وأكبر الجماعات الإسلامية، وإعادة النظر بصورة غير مسبوقة فى تورط بعض أجنحتها فى أعمال عنف وإرهاب وتورط أجنحة أخرى بالتحريض، أو بالامتناع عن الإدانة.

خفتت لهجة التعاطف إلى حدود توحى بقطيعة محتملة وعلت تساؤلات عن أثر بنيتها الفكرية فى تبنى العنف والانخراط فيه ومدى صلاحيتها للاندماج فى أية حياة سياسية، حيث تخلو برامجها التثقيفية من أية أفكار لها صلة بالديمقراطية وتداول السلطة وتقبل التنوع السياسى والفكرى، كما تقوضت أية رهانات سابقة على دور للجماعة فى تلجيم جماعات العنف والإرهاب.

غير أن ذلك كله لم يترجم فى أى تعديل، أو تحسين فى صورة الأوضاع الحالية.

فى جميع المراجعات نقطة المركز فى تفسير ما يجرى من أعمال عنف وإرهاب عزل الرئيس الأسبق «محمد مرسى» فى (٣) يوليو (٢٠١٣) وفض اعتصامى «رابعة» و«النهضة» ـ كأن العنف محض رد فعل وليس بنيانا فكريا وسياسيا متأصلا فى بنية الجماعة منذ تأسيسها عام (١٩٢٨).

بغض النظر عن أية تقويمات هنا أو هناك لإطاحة الجماعة من السلطة، فإن أحدا لا يمكنه إنكار حجم الغضب الشعبى، الذى أخذ مداه فى (٣٠) يونيو بعد ضرب العملية السياسية بإعلان دستورى ديكتاتورى يسمح بالتنكيل بالمعارضة وفرض الصوت الواحد.

كان ذلك اختطافا أول لثورة «يناير».

وبغض النظر عن اختطاف الثورة مرة ثانية من أشباح الماضى، فإن تلخيص ما جرى بـ«انقلاب عسكرى» إخلال فاضح بالحقيقة.

التاريخ هو التاريخ.

وقد كان خطأ جوهريا عدم المضى فى استحقاق العدالة الانتقالية بالشروط والمتطلبات الدستورية والقانونية، حيث الحقيقة تنصف وتكشف وتنير بلا تزيد أو ادعاء.

باليقين فإن إفساح المجال العام وتحسين الملف الحقوقى يساعد على اكتساب التعاطف الدولى فى الحرب الضارية على الإرهاب.

هذه مسئوليتنا قبل أن نسأل الآخرين عن مسئوليتهم.