فوائض الإحباط في المونديال

حجم الخط

الظاهرة تستحق التوقف عندها؛ بالبحث في خلفياتها وأصولها، وما تحمله من إشارات ورسائل. بدا الإحباط الجماعي جارفاً؛ بعد الخروج المبكر للمنتخب المصري من مونديال موسكو، رغم أنه لم يكن مرشحاً لتجاوز الدور الأول إلا بمعجزة ما.

المشاعر العامة تناقضت من الرهان على مثل هذه المعجزة، التي لا تتوافر مقوماتها وأسبابها، إلى إحباط زادت فوائضه على أي حد؛ كأنه انعكاس لأمور أخرى تخرج عن نطاق كرة القدم وعوالمها.

لماذا وكيف حدث هذا التناقض الحاد في المشاعر العامة؟

السؤال في علم النفس الاجتماعي، وإجابته تساعد على فهم ما يجري حولنا وداخلنا من تفاعلات مكتومة. أكثر الاستنتاجات تماسكاً أن الإحباط الزائد تعبير عن مجتمع يبحث عن أمل دون جدوى.

العمل الرياضي تنافس فيه المكسب والخسارة. يوصف تقبل الخسارة في مثل هذه المنافسات ب«الروح الرياضية»، التي تستدعي وفق ما هو مستقر من أصول التعرف إلى أسبابها في حدود اللعبة لا خارجها؛ كنقص الجاهزية وخلل الإعداد والتدريب وقلة الخبرة والإمكانات المتاحة.

عندما تتسع دوائر الإحباط من اللعبة وحدودها إلى المنظومة الرياضة وكل ما يتحرك ويؤثر ويصنع قراراً، فإننا أمام أوضاع تفاقمت أزماتها، لا مسابقة كرة قدم جرى الخروج منها مبكراً.

في الدور الأول من المونديال، تعثرت فرق كبيرة لها شأن وتاريخ في عالم كرة القدم على نحو طرح تساؤلات حول مدى قدرتها على إحراز البطولة، وما إذا كانت هناك مفاجآت تحملها الأدوار الإقصائية التالية، تحرزها فرق لم تكن في قائمة الترشيحات الأولى.

علقت مشانق لمدربين كبار، وجرت مساءلات بقدر الدموع التي سالت، كما حدث مع المنتخب الأرجنتيني؛ بعد تلقيه هزيمة مذلة من نظيره الكرواتي، دون أن تمتد المساءلات خارج مستطيل الملعب إلى كل شيء في الأرجنتين.

المفاجآت أحد دواعي سحر كرة القدم، فليس هناك شيء مقرر سلفاً، وإلا فقدت المنافسات جاذبيتها؛ لكن لا مفاجآت من فراغ، أو على غير أساس، ولا هزيمة بلا أسباب.

ذلك فارق ثقافي بين التعويل على معجزة ما، أو تطلع مستغرق في الأماني المحلقة، وبين جدية الإعداد وكفاءة التدريب وتوافر اللاعبين الموهوبين أصحاب الخبرة في الملاعب الدولية ومدى الانسجام بينهم كفريق وسلامة المنظومة كلها.

عندما تأهل المنتخب المصري للمشاركة في المونديال بعد غياب (28) عاماً أخذت البهجة العامة مداها، جرت تعبئة إعلامية؛ احتفالاً بالإنجاز الكبير، وبثت أغنيات أعدت خصيصاً في نفس اليوم، وأسبغت على الجيل الحالي من لاعبي كرة القدم الأوصاف التي وضعتهم في مكانة خاصة بالقياس على الأجيال التي سبقتهم وعجزت عن مثل هذا الإنجاز.

كان ذلك طبيعياً؛ لكن سقف الرهانات ارتفع على نحو غير طبيعي، فالمنتخب لا يضم باستثناء «محمد صلاح» لاعبين لهم خبرة يعتد بها في فرق دولية كبيرة، وبعضهم يحاول أن يشق طريقه بقدر موهبته، كما أن ملاعب كرة القدم المصرية خالية من جمهورها والمنظومة الرياضية عليلة.

ثم حدث انقلاب عكسي من المدح المبالغ إلى القدح المفرط دون سعي حقيقي لوضع الأمور في نصابها، والرهانات في حدودها.

هذا النوع من الثقافة الشائعة تغيب عنه العقلانية اللازمة لأي مجتمع ليتجاوز أزماته المستحكمة ويعرف بالضبط وجه الخلل في منظومته الرياضية وحدود وقائع الفساد التي تضربها.

القواعد مسألة أساسية لنهضة الشعوب، وهذه مسألة احترام قانون.

إذا أهدرت القواعد فكل شيء مباح وكل الاتهامات مشرعة.

قائمة الاتهامات تطول ظروف وملابسات إرسال وفود فنية وإعلامية وبرلمانية لتشجيع المنتخب، وهذه بذاتها لا غبار عليها، شرط ألّا تكون على نفقة مال عام.

إذا لم تكن هناك مساءلة حقيقية في هذا النوع من إهدار المال العام بالمحسوبيات والمجاملات، أو بسوء تقدير لما يجوز أو لا يجوز، فإن الثقة العامة في نزاهة مؤسسات الدولة سوف تأخذ مدى غير مسبوق.

الهزيمة الحقيقية في غياب القواعد والأصول والبيئة العامة قبل نتائج المباريات المخيبة. أما البحث عن أكباش فداء فهذه عادة قديمة حتى لا ننظر في المرآة، ونعرف تشوهات الصورة.

كان المدير الفني للمنتخب المصري «هكتور كوبر» كبش الفداء، الذي انصبت عليه اللعنات وحده. باليقين فقد أنجز المهمة الموكلة إليه، وصل إلى المباراة النهائية في بطولة الأمم الإفريقية، وصعد بالمنتخب إلى المونديال بعد غياب طويل، غير أن مبالغته في الخطط الدفاعية حرمت المنتخب من أن يثق بنفسه، وفي قدرته على إحراز الفوز وأفقد الكرة المصرية جمالها.

لا يحدث في أية إحباطات رياضية أن يتسع غضبها إلى كل الملفات مرة واحدة السياسية والثقافية والاجتماعية، إلا إذا كان المجتمع مأزوماً في أمله ويستشعر ضيقاً في تنفسه.

تلك أخطر رسائل فوائض الإحباط في المونديال.