لروح قائد شهيد هزم قبره

حجم الخط

حلت، الأسبوع الماضي، الذكرى السنوية الـ17 لاستشهاد القائد أبو علي مصطفى . إذا كان من التعسف اختزال حركات التحرر الوطني في رموزها القيادية، فإن من غير الإنصاف تجاهل الدور الطليعي لأفراد أسسوا لها. وفي فضاء التأسيس للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، يلمع اسم الشهيد أبو علي بين مجموعة قادة وطنيين استثنائيين، تصدوا لمخاطر وتحديات ما بعد النكبة، وأسسوا للثورة المعاصرة، وأشعلوا شراراتها الأولى، وقادوها لعقود، حروباً ونضالات، في الوطن والشتات. فهناك مِن القادة مَنْ يتحمل محنة حياة النضال، مهما طالت، لكن فتنة الحياة الطبيعية تُضعفه، مهما صغُرت. أما القادة الذين لا يهزهم اجتماع المحنة والفتنة، فطراز استثنائي من المناضلين، منهم كان أبو علي، الذي برحيله خسرت فلسطين، شعباً وقضية، قائداً نقياً، جامحاً، مقتحماً، خرج للحياة من صُلبِ فلاح فدائي صاحَب القسامَ؛ حيث عمت البلاد ثورة عام 36.

كان أبو علي قائداً صلبَ العود، سكنته فلسطين من الوريد إلى الوريد، ولم يعرف مستقراً إلا حيث يكون فيه موقع لنضال، هناك في أحراش جرش وعجلون، وفي عبور نهر الأردن، وفي جنوب لبنان والبقاع، وفي صرخة واضحة كحد السيف، أطلقها لحظة وطئت قدماه، عام 99، تراب الوطن مرة أخرى: «عدنا لنقاوم، وعلى الثوابت لا نساوم».

مثَّل أبو علي حالة قيادية قدوة، ونموذجاً حياً للدمج بين القول والممارسة، ولجسر الهوة بين النظرية والتطبيق، وبين الحزبي والوطني، وبين الوطني والقومي، وبينهما وبين الأممي، دون فقدان للبوصلة، أو مغالاة في تقدير أهمية كل طرف من أطراف هذه المعادلة، التي يتشابك فيها الصراع الوطني، ويشتبك أحياناً. كان نموذجاً لتعميد المواقف بعرقِ ودمِ وتعبِ النشاط اليومي المثابر، وتملَّك خصائص ومواصفات القائد السياسي والعسكري مبكراً، وتمتع بفهم متميز لقوانين الصراع بروحية فكرية جمعية مقاومة للانغلاق والانعزال، متزاوجة مع حس شعبي شفاف، ولم تحرفه نقديته الجريئة عن طريق الوحدة، وظل حتى ارتقى صمام أمانٍ وطني وحزبي.

ولعل فيما طرحه قبل رحيله بشهور، ما يعد انتباهاً مبكراً، ودعوة متقدمة، ويصلح لمعالجة مأزق الحالة الوطنية الفلسطينية الراهنة، بالمعنيين الداخلي والخارجي؛ حيث يقول:

«من دون رتوش أقول إنني في الخارج لم أكن أفهم كل ما يحصل في الداخل، وجودي في الداخل عزز معرفتي بالتفاصيل كاملة، كنت أعرف لكن معرفتي كانت ناقصة.. لذا يجب الانتباه وعدم استمرار فقدان البوصلة؛ كي نصل إلى نقطة توازن في كيف يفهم الداخل الخارج وبالعكس». ويضيف: «حتى الحركات الوطنية التي قادت الكثير من الشعوب فاوضت، لكن متى؟ وكيف؟ وبماذا؟ هذا هو المهم، لقد اختارت لحظة قوتها للتفاوض، بينما اختارت القيادة الرسمية الفلسطينية لحظة ضعف، وتركت كل الأسلحة، وبذلك أوصلتنا إلى بؤس الاتفاقات؛ بل أبأسها، بعد أن جردت نفسها من كل الأسلحة وفي مقدمتها الانتفاضة الشعبية.. لكن رغم الجحيم الذي مثله التناقض في السياسة مع السلطة والقيادة الرسمية، علينا إدارته بمشروعية العمل السياسي والجماهيري، بحكمة ومسؤولية ووعي مشترك من الجميع، فنحن لا نعتبر نفسنا بديلاً عن الإجماع الوطني؛ بل نحن جزء من حالة وطنية شعبية عامة معارضة موجودة في الوطن والشتات، دورنا فيها ومن خلالها يقوم على مبدأ التعاضد في حماية المصالح الوطنية للشعب الفلسطيني والنضال من أجل أهدافه العليا»... و«نؤيد إقامة هيئة تشريعية واحدة موحدة للشعب الفلسطيني، في الوطن والشتات... مجلس وطني منتخب ديمقراطياً؛ حيث أمكن، وبالتوافق حيث تعذر، فالحاجة إلى هذه المؤسسة أصبحت ملحة، ومن مقومات انتزاع حقوقنا في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة».

وحول الجيل الجديد، يقول: «إن أهم ما تغير هو أن هناك جيلاً جديداً لم نعرفه نحن بالمعنى الشخصي، كنا نسمع عنه، ونحن في الخارج، من خلال دوره النضالي، خصوصاً في زمن الانتفاضة الفلسطينية المجيدة، وهذا الجيل أصبح بعد 32 عاماً هو الأكثرية». أما حول البعد القومي للقضية الفلسطينية، فيقول: «إن الجماهير العربية التي قاومت الاستعمار وأحلافه وأتباعه عبر تحركها الشامل الواسع، تستطيع اليوم أن تفشل المشروع الصهيوني الأمريكي الساعي لإخضاع الوطن العربي وتصفية قضيته المركزية... إنها قادرة على تبديد كل الأوهام حول سلام مزعوم مع قاتلي الأطفال وقاطعي الشجر وممتهني الكرامة الإنسانية». كأن الاقتباسات أعلاه نبوءة؛ لكنها في الحقيقة تعكس قناعة راسخة لقائد وطني ثوري، لا يلمح التناقضات لمحاً؛ بل يسبر غورها، ويبني على أساس قراءتها المتمعنة مواقفه وقناعاته، حكايته حكاية قادة يتقدمون الصفوف حتى الاحتراق، حكاية رجال يهزمون قبورهم.