اتفاق أوسلو : فشل مُعلن وواقع قائم

حجم الخط

 

لم يكن دخول القيادة الفلسطينية مربع التسوية السياسية خطأ استراتيجيا وكبيرا من حيث منطق السياسة وضرورات التعامل مع متغيرات قاهرة تحتاج لمرونة سياسية وتعدد في أساليب المواجهة ، في المقابل فإن مقاومة الاحتلال لم تكن خطأ أو خروجا عن منطق وسياق التحرر الوطني ، ولكن الخطأ كان في غياب استراتيجية وطنية توافقية للتعامل مع نهج التسوية ومع اتفاق أوسلو والسلطة وليدة أتفاق أوسلو ،أيضا كان الخطأ في نهج المقاومة الفصائلية بدون استراتيجية وطنية وتبعية بعض فصائل المقاومة لأجندة ومشاريع خارجية محل خلافات عربية وإسلامية ، ثم في الانقسام الفلسطيني الذي كان مبرر حركة حماس من وراء انقلابها على الشرعية في يونيو 2007 رفضها لنهج منظمة التحرير في التفاوض مع الاحتلال ووقف المقاومة المسلحة ، لينتهي الأمر بحماس لتلَمُس خطى المنظمة .

وهكذا ومع كل يوم يمر إلا ونستشعر المأزق والشرك الكبير الذي وقعت به حركة التحرر الوطني الفلسطيني بداية بتوقيعها على اتفاقية أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية دون وجود استراتيجية وطنية شمولية للتعامل مع عملية التسوية ودون امتلاك الخطط الوطنية البديلة في حالة فشلها ، ثم انحراف عملية التسوية والخلل في اداء السلطة ، أيضا الخلل في أداء معارضيها وخصوصا حركة حماس .

لم يكن اتفاق أوسلو مجرد اتفاق كبقية الاتفاقات التي تعقدها الدول مع بعضها البعض أو الاتفاقيات التي تعقدها حركات التحرر الوطني وهي في أوج انتصاراتها مع دولة الاحتلال لترتيب كيفية جلاء جيش الاحتلال ، وفي نفس الوقت لم تكن اتفاقية استسلام فلسطيني لدولة إسرائيل ، كما لم تكن تعبر عن نوايا صادقة من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ، بل كانت اتفاقية ملتبسة في أهدافها ونصوصها فرضتها ظروف قاهرة أهمها ضغوط أمريكية لتحقيق أهداف أمريكية لها علاقة بتطورات حرب الخليج الثانية وتوجه واشنطن لإعادة قواعد التحكم في النظام الدولي الجديد بعد انهيار المعسكر الاشتراكي .

بعد مرور ربع قرن على توقيع اتفاق أوسلو وبالرغم من الاعتراف من الجميع على فشل حل الدولتين – دولة إسرائيل ودولة فلسطينية على كامل الضفة و غزة وعاصمتها القدس -  أو وصوله لطريق مسدود إلا ان ذلك لم يؤثر على السلطة الفلسطينية التي ما زالت قائمة وتقوم بوظيفتها المنصوص عليها في اتفاقية أوسلو ، وتفسير ذلك أن مرجعية السلطة هو اتفاق أوسلو الذي لم يتطرق لحل الدولتين فهذا جاء لاحقا في خطة خارطة الطريق 2002 ، بل مرجعيتها اتفاقية أوسلو مما يعني أن اتفاق أوسلو ما زال حيا وله مفاعيله التي تتجسد بوجود السلطة من وزارات ومؤسسات وأجهزة امنية وجوازات سفر وتنسيق أمني وبروتوكول باريس الاقتصادي الخ .

لقد فشلت تسوية حل الدولتين ولكن لم يفشل اتفاق أوسلو وهذا هو الأمر الخطير لأن خطة خارطة الطريق جاءت بعد نهاية المرحلة الانتقالية واستعصاء المفاوضات وفي خضم الانتفاضة الثانية ومع طرح المبادرة العربية للسلام ، وكانت  تهدف لتجاوز مأزق اتفاق أوسلو ومحاولة لإرضاء الفلسطينيين حتى يعودوا لطاولة المفاوضات مقابل وعد مبهم بدولة في نهاية المطاف ، فشل حل الدولتين – مع اعتقادنا أن الأمر ليس فشل بل إعادة صياغة جغرافيا الدولتين – يعني انتكاسة لعملية التسوية وفشل خطة خارطة الطريق ، وهذا يعني العودة مجددا لاتفاقية أوسلو والتزاماتها المجحفة على الفلسطينيين .

اليوم وبعد ربع قرن على توقيع الاتفاق تتباين المواقف وتغتم رؤية الحكم من حيث مكمن الخطأ في اتفاق أوسلو وفي التقييم والحكم على الاتفاق بعد التوقيع  :

أولا : الأخطاء التي صاحبت توقيع اتفاق أوسلو وعملية التحول إلى سلطة :

1- القبول بدخول عملية التسوية في مدريد وأوسلو على أساس قراري مجلس الأمن 224 و 338 فقط وتجاهل بقية قرارات الشرعية الدولية كقرار التقسيم 181 وقرار حق العودة 194 وعديد القرارات التي تتحدث عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني وحقه بمقاومة الاحتلال الخ . وهذا يتعارض مع إعلان قيام الدولة في الجزائر 1988 الذي قَبِل الدخول بعملية التسوية على أساس كل قرارات الشرعية الدولية . وعلى هذا الأساس فإن اتفاقية أوسلو ليست تطبيقا لإعلان الاستقلال في الجزائر ولا تتفق مع المشروع الوطني بل هي مجرد مشروع تسوية تنكرت له إسرائيل وكانت سببا في فشله ، وبالتالي لا تُلزم الاتفاقية وتوابعها الشعب الفلسطيني ولا تُمثل مرجعية وطنية ملزمة له .

2- القبول بأن تكون المفاوضات تحت رعاية الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية فقط دون إشراف دولي أو محاولة تشريع الاتفاقية بقرار دولي من مجلس الأمن ،الأمر الذي أسقط عن اتفاقية اوسلو صفة الاتفاقية الدولية .

3- تأجيل قضايا الوضع النهائي وهي قضايا استراتيجية ، مما جعل المفاوضات تشكل غطاء للاستيطان والتهويد في الضفة والقدس .

4- التباس صيغة الاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير ، حيث اعترفت منظمة التحرير بحق إسرائيل بالوجود دون ذكر لحدود إسرائيل ،وكان يفترض أن يكون الاعتراف بإسرائيل في حدود ما قبل حرب حزيران 1967 مقابل اعتراف إسرائيل بدولة فلسطينية على حدود 1967 ، وكان من الأفضل أن يكون الاعتراف المتبادل كأحد مخرجات المفاوضات وبعد قيام دولة فلسطين ، وكان نتيجة هذا الخطأ أن القيادة الفلسطينية اليوم في مأزق حيث استمرار اعترافها بإسرائيل يعني قبولها بقانون القومية اليهودي .

5- القبول بالمفاوضات واستمرارها دون اشتراط وقف الاستيطان مما جعل عملية المفاوضات ووجود السلطة الفلسطينية يشكلا غطاء للاستيطان أو قبول ضمني به .

6- استمرار نفس الفريق المفاوض تقريبا واقتصاره على حركة فتح .

7- تغيير الميثاق الوطني الفلسطيني عنوان الوطنية الفلسطينية في دورة غزة 1996 .

8- عدم تحيين وتجسيد فكرة الدولة مباشرة بعد نهاية المرحلة الانتقالية مايو 1999 ، وحتى الآن ما زالت القيادة مترددة حتى بعد أن تراجعت واشنطن عن حل الدولتين ومرجعية أوسلو وبعد أن انتهكت إسرائيل كل الاتفاقات والتفاهمات السابقة .

9- المراهنة شبه الكلية على الخارج سواء تعلق الأمر بالشرعية الدولية أو الأمم المتحدة للحصول على دولة فلسطينية مستقلة . هذه المراهنة استمرت من مراهنة على الأمم المتحدة إلى مراهنة على محكمة الجنايات الدولية ، مع غياب استراتيجية واضحة في التعامل مع الشرعية الدولية ، وما جدوى قرارات دولية غير ملزمة ولا يتم تنفيذها .

10- التباعد ما بين القيادة والشعب وخصوصا في مرحلة ما بعد أبو عمار وعدم ثقة الأولى بالشعب وقدراته ولو من خلال أشكال من المقاومة السلمية . وهذا ما خلق فجوة ما بين القيادة والشعب لم تستطع الرواتب والإغراءات المالية أن تجسرها .

11- تهميش منظمة التحرير  لصالح السلطة .

بدلا من أن تكون السلطة الوطنية أداة بيد منظمة التحرير للتعامل مع عملية التسوية فيما يخص فلسطينيي الداخل وتبقى المنظمة ممثلة لكل الشعب الفلسطيني ومرجعية جامعة يمكن الرجوع لها إذا ما فشلت عملية التسوية ،بدلا من ذلك جرت عملية تهميش مقصودة لمنظمة التحرير وتم اختزال الشعب الفلسطيني بفلسطينيي الداخل وأصبحت منظمة التحرير مجرد ملحق بالسلطة الوطنية بدون سلطة اتخاذ قرار ،ومن السلطة تتلقى المنظمة الموازنة ورواتب العاملين فيها بالإضافة إلى وجود احزاب خارج المنظمة بل وتنافسها على تمثيل الشعب .

12- تجاهل فلسطينيي الشتات .

وهؤلاء أحد جناحي الثورة الفلسطينية ومخزون بشري ونضالي كان من الممكن توظيفهم بشكل أفضل لمقارعة إسرائيل في المحافل الدولية وفي التأثير على الدول المضيفة .

13- الصراع على السلطة بدلا من الوحدة الوطنية في مواجهة الاحتلال .

لأن أتفاق أوسلو أسس سلطة فهذا أدى للصراع بين الأحزاب على السلطة بدلا من التوحد في مواجهة الاحتلال ، وهذا ما أدى للمواجهات بين السلطة الوطنية وحركة حماس ثم سيطرة حركة حماس على قطاع غزة وتشكيلها سلطة وحكومة خاصتان بها .

14- كسر حالة العداء أو تمييعها بين الشعب ومغتصبي أرضه .

وهذا أمر خطير لأن استمرار حالة العداء للخصم وتعبئة الشعب ضده يعتبر أحد أدوات المواجهة وحصانة للشعب من الاختراق الفكري والثقافي ومنع التطبيع مع الاحتلال . وهكذا نلاحظ أنه في الوقت الذي التزمت به السلطة بعملية التسوية بما في ذلك التنسيق الأمني ووقف التحريض ،استمرت إسرائيل على نهجها المعادي للسلام وللاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني واستمرت من خلال ساستها ومستوطنيها تمارس الإرهاب وتحرض على الشعب الفلسطيني وقياداته وتتهمهم بالإرهاب .

15- تزاوج السلطة والثروة سواء في غزة أو الضفة .

بسبب التحولات التي طرأت على النخبة السياسية وبسبب تعثر عملية التسوية وتراجع خيار المقاومة ،فقد سادت قناعات عند كثيرين من النخب السياسية بأن السلطة هي نهاية المطاف ،لذا تعاملوا مع السلطة ليس كأداة نضالية بل كمصدر للرزق ومراكمة الثروة ،وتشكلت نخب سياسية اقتصادية في الضفة وغزة راكمت الثروات وأصبحت مستعدة للقتال من أجل السلطة حفاظا على مصالحها الشخصية . 

16- تحويل الفدائيين والثوار إلى موظفين وكَتَبة يتقاضون رواتب من سلطة تموَّلَ من الخارج ،وتحت إشراف ورقابة الاحتلال !.. بدأ الأمر مع مناضلي حركة فتح وفصائل منظمة التحرير ثم انتقل لمجاهدي حركة حماس .

17- قطع طريق العودة على نهج المقاومة .

لأن السلطة حلت محل حالة التحرر الوطني ولأن حركة فتح تحولت لحزب سلطة في الضفة الغربية وحركة حماس تحولت لسلطة في قطاع غزة ،فإن المقاومة حتى السلمية منها باتت تتعارض وتهدد مصالح السلطتين الحاكمتين ،لأن المقاومة تستدعي تدخل جيش الاحتلال مما قد يؤدي لإنهاء السلطتين ،وبالتالي أصبحت السلطة والحفاظ عليها عائقا أمام مهمة المقاومة والتحرير .

ثانيا : تباين المواقف من اتفاق أوسلو بعد ربع قرن من توقيعه

1- موقف الرفض المطلق لاتفاق اوسلو ومخرجاته

وأصحاب هذا الموقف يُخونون الاتفاق ومن وقعوه ويًحملونه المسؤولية عن كل ما جرى ويجري من دمار للمشروع الوطني وأنه قدم تنازلات كبيرة لإسرائيل دون أن يستفيد منه الفلسطينيون ، وأنه شجع كثيرا من الدول على أن تطبع علاقاتها مع إسرائيل . وهذا الفريق يضم فصائل من خارج منظمة التحرير كحركتي حماس والجهاد وفصائل من منظمة التحرير كالجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية وشخصيات مستقلة ومن داخل حركة فتح نفسها .

2- موقف الدفاع عن الاتفاق

مع ان هؤلاء يتآكلون مع مرور الوقت إلا أن هناك من يدافع عنه ويعتبره اتفاق فرضته الضرورة ويمكن البناء عليه وخصوصا فيما يتعلق بوجود سلطة فلسطينية وبناء مؤسسات وبنية تحتية فلسطينية تشكل قاعدة للدولة الفلسطينية القادمة بالإضافة إلى أن الاتفاق سمح بعودة  مئات الآلاف من فلسطيني الشتات ، وهذا الفريق يضم قيادة منظمة التحرير وقيادة حركة فتح وبعض الفصائل الفلسطينية الصغيرة .

3- مواقف وسطية تبحث عن حلول وسط

وهؤلاء يرون أن المشكلة لم تكن في الاتفاق بحد ذاته بل بكيفية إدارة ملف التسوية وبالأخطاء التي صاحبته ويطالبون بخروج متدرج من الاتفاق وملحقاته ، وهؤلاء يتزايدون كل يوم حتى داخل منظمة التحرير وحركة فتح وقد برزت هذه المواقف من خلال قرارات متعددة للمجلس المركزي لمنظمة التحرير تطالب بإعادة النظر ببعض مشتملات الاتفاق وملحقاته كالتنسيق الأمني وبروتوكول باريس الاقتصادي والاعتراف بإسرائيل بل وترتفع مطالبات بحل السلطة .  

الخاتمة

كانت نتيجة مأزق تسوية اتفاق أوسلو الذي تأكد بعد فشل قمة كامب ديفيد بين الرئيس ياسر عرفاتورئيس وزراء إسرائيل أيهود باراك والرئيس الأمريكي كلينتون والتي بدأت يوم 11 يوليو 2000 أن قررت واشنطن وتل أبيب تصفية الرئيس أبو عمار والانقلاب على اتفاق أوسلو وما ترتب من التزامات على إسرائيل ، وقد أدرك أبو عمار الأمر فبادر بالتمرد على ما يحاك من مؤامرة وذلك من خلال سكوته على ممارسة بعض الفصائل للعمل العسكري ضد إسرائيل وخصوصا حركة حماس التي اعترف بعض قادتها لاحقا أن أبو عمار أعطاهم الضوء الأخضر للعمل العسكري ، كما كان له دور في اندلاع الانتفاضة الثانية يوم 28 سبتمبر 2000 .

ردا على موقف أبو عمار قررت واشنطن وتل أبيب تصفية أبو عمار سياسيا من خلال محاصرته في المقاطعة في رام الله ومنعه من التحرك والتحريض عليه داخليا بتهمة الفساد وسوء الإدارة وكان ذلك بمساعدة من البعض من داخل السلطة بل من داخل حركة فتح ، وردا على ذلك قرر أبو عمار العودة للعمل العسكري عندما رتب لشحنة أسلحة كبيرة من إيران حملتها السفينة "كارين أي"  وقد سيطرت  إسرائيل على السفينة يوم الرابع من يناير 2002 وساقتها لموانئها وأعلنت لاحقا عن حمولتها والشخص المشرف مباشرة عن العملية وهو فؤاد الشوبكي مسؤول المالية في فتح والمقرب من الرئيس أبو عمار والذي ما زال في السجن حتى اليوم وقد بلغ عمره الآن 78 سنة .

استغلت إسرائيل عملية التفجير التي قام بها مقاتل من حركة حماس في فندق بارك بناتانيا يوم 27 مارس 2002 فقامت باجتياح الضفة الغربية وعادت كل الضفة لتخضع للحكم العسكري مباشرة ، ولكن الأخطر من ذلك أن إسرائيل وبدعم من واشنطن قررت تصفية الرئيس أبو عمار جسديا وفصل غزة عن الضفة لتدمير حلم أبو عمار والشعب الفلسطيني بقياد دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس ، وأنجزت إسرائيل الهدف الأول يوم 4 نوفمبر 2004 عندما توفي أبو عمار متأثرا بالتسمم عن طريق مادة البلوتونيوم المشع ، وأنجزت الهدف الثاني عندما سحب شارون جيشه من داخل قطاع غزة في خريف 2005 مما أوجد فراغا ساعد حركة حماس على السيطرة العسكرية على القطاع يوم 14 يونيو 2007 ، وهي السيطرة التي أسست للانقسام وما زالت مستمرة وقد تؤدي لقيام دولة غزة بتزامن مع تصفية السلطة الفلسطينية في الضفة وتأسيس أوسلو جديد سيكون أسوء من أوسلو الأول  .

Ibrahemibrach1@gmail.com