المشروع الوطني الفلسطيني مساراً ومصيراً

حجم الخط

في ديسمبر/كانون الأول، عام 1988؛ حيث بلغت انتفاضة 87 الشعبية الكبرى ذروتها، وعجِز الاحتلال عن إخمادها، بوسائل عسكرية وأمنية، انبرت الولايات المتحدة؛ لإجهاضها سياسياً؛ عبر فتح قناة حوار، (اتصال)، مع منظمة التحرير الفلسطينية. وقد نجحت واشنطن، آنذاك، لا في إجهاض تلك الانتفاضة، فحسب؛ بل، وفي «جرجرة» قيادة «المنظمة» إلى الاعتراف بالقرار (242)، والإعلان عن «نبذ الإرهاب»، (المقاومة)، واعتبار الميثاق الوطني «متقادماً»، («كادوك» بالفرنسية)، وصولاً إلى انخراطها الفعلي في «مشروع التسوية الأمريكي»: مسار مفاوضات «مدريد أوسلو» العبثية المُدمرة. وبعد إنشاء «السلطة الفلسطينية، عام 1994، طورت الولايات المتحدة قناة اتصالها بمنظمة التحرير؛ حيث افتتح مكتب الأخيرة في واشنطن. وفي الأسبوع الماضي، وفي إطار حربها المفتوحة على الفلسطينيين، شعباً وقضية، قررت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب إغلاق هذا المكتب، ما يضيف برهاناً جديداً على أن خطة «صفقة القرن» تستهدف شطب قضية فلسطين من جميع جوانبها.

مقصود الكلام أعلاه القول: بات واضحاً، أكثر من أي وقت مضى، أن الخلل في مسيرة برنامج منظمة التحرير لتجسيد حق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير والدولة لم يعد خللاً كميّاً؛ بل بنيويّاً، ما يعني أن مهمة إعادة بناء وتوحيد«المنظمة»، وتفعيلها ودمقرطتها، باتت الحلقة المركزية، التي يشكل الإمساك بها، شرطاً للإمساك بباقي حلقات الشأن الفلسطيني، داخلياً وخارجياً.

والآن، حتى تكون مواجهة «صفقة القرن» جادة، فإنه لا مناص من إجراء مراجعة وطنية شاملة لمسار ومسيرة المشروع الوطني، بوصفه تعبيراً عن اعتبار منظمة التحرير بمنزلة الكيان السياسي الوطني الفلسطيني المؤقت حتى انتزاع الحقوق الوطنية والتاريخية، وفي مقدمتها حق العودة وتقرير المصير والدولة، علماً أن «صفقة القرن» هذه لا تستهدف جوهر القضية والصراع، حق عودة اللاجئين، فحسب؛ بل وأدنى الحقوق الوطنية، الدولة المستقلة ذات السيادة، التي تدرج تراجع قيادة المنظمة عن مفهومها على النحو التالي:

في أواخر ستينات القرن المنصرم، بلورت المنظمة مضمون الدولة المبتغاة في مطالعة إقامة (دولة فلسطينية ديمقراطية علمانية على أنقاض«إسرائيل»). وفي العام 1974 قرر المجلس الوطني الثاني عشر اعتماد ما سميَ«برنامج السلطة الوطنية»، أو«النقاط العشر»، الداعي إلى إقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي أرض فلسطينية يتم تحريرها، توطئة لإقامة الدولة الفلسطينية الديمقراطية العلمانية. وفي العام 1988 أصدر المجلس الوطني الثامن عشر، «إعلان الاستقلال»، الذي صارت الدولة الفلسطينية بموجبه، دولة مستقلة، لكن ليس على أنقاض«إسرائيل»؛ بل إلى جانبها، إنما دون تحديد لحدودها. وفي العام 1991 وافقت قيادة المنظمة على المشاركة في«مؤتمر مدريد»، بوفد من الأرض المحتلة تحت مظلة الوفد الأردني، ما أوحى بأن المنظمة قد ترضى بالكونفيدرالية مع الأردن كمشروع دعمته الولايات المتحدة. وبعد اتفاق«أوسلو»، عام 1993، امتزجت المنظمة بالحكم الذاتي، الذي وافقت على إقامته، وتسلمته، كخطوة أولى باتجاه، إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967. ويمكن تقسيم تعامل قيادة منظمة التحرير مع المشروع الوطني ومفهوم الدولة إلى أربع مراحل:

1: مرحلة الميثاق القومي الفلسطيني، (منذ تأسيس المنظمة عام 1964 وحتى عدوان 1967)؛ حيث استولت «إسرائيل» على ما كان قد تبقى من أرض فلسطين. في هذه المرحلة رأت المنظمة، (بقيادة المرحوم الشقيري في حينه)، أنها المؤسسة الحافظة للكيانية الفلسطينية المستهدفة.

2: مرحلة الميثاق الوطني الفلسطيني، (من عدوان 1967 حتى حرب أكتوبر 1973)؛ حيث عَبَر جيشا مصروسوريا خطوط 67، وهو ما دفع البعض إلى الاعتقاد بإمكانية إحراز تسوية سياسية مع«إسرائيل».

3: مرحلة تجاهل الميثاق الوطني، (من عام 1973 وحتى مدريد، عام 1991)؛ حيث تواجهت المنظمة، وبقية «دول الطوق»، (سوريا، الأردن، لبنان)، مع «إسرائيل» على طاولة المفاوضات، وليس في ميادين المواجهة والقتال.

4: مرحلة إلغاء الميثاق الوطني، (من «أوسلو»، عام 1993 وحتى الآن)؛ حيث دخلت قيادة المنظمة مع «إسرائيل» في مفاوضات ثنائية مباشرة برعاية أمريكية، بعد أن تبادلتا الاعتراف. في هذه المرحلة، قبلت المنظمة بمبدأ تبادل الأراضي، لحل مشكلة التجمعات الاستيطانية الكبرى، بل، وقبلت بمبدأ تأجيل البت في قضية القدس والحدود والمستوطنات والمياه وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم التي شردوا منها. تلك هي مسيرة التراجعات التي ينبغي مراجعتها، برنامجاً وممارسة. أما المدخل فتفعيل «الإطار القيادي المؤقت للمنظمة»، لأجل الاتفاق على عقد مجلس وطني توحيدي.