كي لا تتجدد الرهانات المُدمِّرة

حجم الخط

 

لقد شغلت فلسطين، شعباً وقضية وحقوقاً ونضالاً ورواية، العالم، عرباً و«عجماً»، شعوباً وأنظمة، سواء لناحية ما حظيت به من تأييد ودعم، أو لناحية ما تعرضت له من عداء وتآمر وتواطؤ، ذلك منذ صدور «وعد بلفور» المشؤوم عام 1917، إلى ثورتيْ 29 و36، إلى «قرار التقسيم» المُجحف، إلى نكبة 48 واعتراف هيئة الأمم الظالم ب«إسرائيل» الشاذة المارقة، إلى عدوان 67، إلى معركة الكرامة 68، ومأساة أيلول 70، إلى سلسلة اجتياحات «إسرائيل» للبنان، وذروتها اجتياح 82، إلى انتفاضة 87 الشعبية الكبرى، إلى انتفاضة 2000 المسلحة، إلى سلسلة الهبات الشعبية التي لم تنقطع في السنوات الأخيرة، وصولاً إلى حروب الإبادة والتدمير الشامل التي تعرض لها قطاع غزة في العقد الأخير.

مقصود الكلام أعلاه الإشارة إلى أن قضية فلسطين إلى جانب كونها قضية وطنية وقومية، أساساً، هي، بلا شك أو ريب، مساراً ومصيراً، قضية دولية، أيضاً. هذا يعني أن انتصار الشعب الفلسطيني في صراعه الوجودي المفتوح والشامل، يحتاج إلى كل أشكال النضال، ومنها النضال السياسي والدبلوماسي على الحلبة الدولية، إنما في إطار الموازنة بين العامليْن الوطني والقومي، من جهة، والعامل الدولي، من جهة ثانية، أي من دون فقدان البوصلة، وعدم المغالاة في تقدير أهمية كل طرف من أطراف هذه المعادلة التي يتشابك فيها النضال الوطني الفلسطيني ضد الاحتلال، ويشتبك، داخلياً، أحياناً. ويعني، أيضاً، أنه ما كان ينبغي، في حال من الأحوال، اختزال النضال السياسي والدبلوماسي في التفاوض، واختزال الأخير في التفاوض الثنائي المباشر، تحت الرعاية الأمريكية، ولا اختزال الرهان على العامل الدولي في جانبه الرسمي، الأنظمة، وإغفال الجانب الشعبي من هذا الرهان، ولا نسيان أو تناسي أن مهمات انتزاع الحقوق الوطنية في العودة والدولة وتقرير المصير هي مهمات كفاحية أولاً، وأنها مهمات للجماهير الفلسطينية والعربية، أساساً، أما دور حركاتها وأحزابها الوطنية والقومية، بمشاربها المختلفة، فيتمثل في التأطير والتنظيم والتعبئة والتحشيد وتقدم صفوف المواجهة، وتعزيز الصمود، وتوحيد الجهود والإمكانات والطاقات.

وإذا شئنا نقل التحليل من المجرد إلى الملموس، ومن التوصيف إلى التشخيص، بما هو نصف العلاج كما يقال، فلنقل: انتهت 27 عاماً من رعاية الولايات المتحدة ل«مسار مدريد- أوسلو» لتحقيق تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، وفق معادلة «الأرض مقابل السلام»، إلى الحرب الأمريكية الدائرة، المفتوحة والشاملة، على الشعب الفلسطيني، ومن دون أن تُواجه هذه الحرب المسعورة بخطوة عملية واحدة من بقية دول العالم، ولو في حدود الاحتجاج على القرارات الأمريكية المتلاحقة، من القرار بشأن القدس، إلى قرار نقل السفارة، إلى إنهاء المساهمة الأمريكية في موازنة «السلطة»، وفي موازنة وكالة «الأونروا»، وفي موازنة مستشفيات القدس، إلى قرار إغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن.

هذا يعني أن المسؤولية عما آلت إليه أمور هذا المسار التفاوضي الفاشل والمُدمر، هي، وإن كانت تتحملها، أساساً، الولايات المتحدة، وإدارتها الحالية، ورئيسها، وفريقها لشؤون المنطقة والمفاوضات، بخاصة، فإن صمت بقية دول العالم، يتحمل، أيضاً، جزءاً من هذه المسؤولية. ويعني، أيضاً، (وهنا الأهم)، أن مواجهة التحديات القائمة والمخاطر المُحدقة بقضية فلسطين، بوصفها قضية العرب الأولى، تتطلب إعادة البحث في بديهيات الصراع، وأولاها، أن العامليْن الوطني والقومي، هما ما ينبغي إزالة عجزهما، وتفعيلهما، بالمعنى الشامل للكلمة، بحسبان أن العامل الداخلي للمواجهة لا يزال، كما كان منذ نشوء الصراع، العامل الأساسي، والعامل الكفيل بتحريك وتفعيل العامل الخارجي، الإقليمي والدولي، بصورة فعلية جدية وجادة. أما استمرار الرهان الرسمي الفلسطيني والعربي على أن يتحرك الاتحاد الأوروبي، أو أن تتحرك روسيا، تحركاً فاعلاً ل«انقاذ» ما يسمى العملية السياسية«، فوصفة لتفاقم المأزق وتبديد الجهد والوقت، واستمرار المراوحة في المكان. فقد ثبت، على مدار سنوات عمل«الرباعية الدولية»لرعاية هذه«العملية السياسية»، أن الدور الفعلي هو للطرف الأمريكي، وأن مشاركة أطراف الاتحاد الأوروبي، وروسيا، وهيئة الأمم، لم تكن سوى مشاركة شكلية. ثم مَن قال إن«دولة»الاحتلال،«إسرائيل» قبلت في الماضي، أو أنها ستقبل الآن ومستقبلاً، بدور فاعل لهذه الأطراف؟