معركة العبور.. قراءة في التكتيكات

حجم الخط

لم تكن معركة العبور، في السادس من أكتوبر عام 1973م، حدثاً عابراً في التاريخ العربي. فهذه المعركة، بالإضافة إلى إيجابياتها، في كسر أسطورة الجيش «الإسرائيلي» الذي لا يقهر، فإنها مثلت انتقالاً استراتيجياً في الفكر السياسي والاستراتيجي، لدى عدد من بلدان الطوق العربية، من اعتبار الكيان الصهيوني، عدواً ونتوءاً غريباً على الواقع العربي، وتحدياً للوجود والمصير، إلى قبول، بالدخول في مفاوضات مباشرة معه، والاعتراف الكامل بوجوده، شريطة انسحابه من الأراضي التي احتلت في عدوان يونيو عام 1967م.

وإذا ما عدنا إلى معركة العبور، فسنلحظ اختلافاً جوهرياً آخر، في التكتيكات التي اعتمدها الفرقاء العرب، الذين انخرطوا في هذه المعركة، وتحديداً مصر وسوريا.

فبالنسبة للقيادة المصرية، كانت معركة العبور، وسيلة لتحريك سياسي، للأزمة، واستعادة شبه جزيرة سيناء. ومن هذا المنظور، كان يكفي أن تعبر القوات المصرية، قناة السويس، وتتمركز في الضفة الشرقية منها، لتبدأ مرحلة تحرك سياسي مكثف باتجاه استعادة الأراضي التي احتلها «الإسرائيليون»، في يونيو عام 1967م. أما القيادة السورية، فهدفت من معركة العبور، لتحرير كامل هضبة الجولان السورية المحتلة.

الرئيس المصري، من جانبه، كان يدرك استحالة إقناع القيادة السورية، بالدخول في الحرب، حين يكون هدفها مجرد عبور قناة السويس، ووجد أن السبيل لدخولها هو اقتناعها بأن هدف الحرب، هو تحرير كامل سيناء، والوصول إلى ممري متلا والجدي، شمال سيناء.

واقع الحال، أن لكل من الفريقين مبرراته السياسية الاستراتيجية، والتكتيكية. فالرئيس السادات، يجد نفسه مجبراً على دخول الحرب، لكسر حالة اللاسلم واللاحرب. وكان يرى أن الجيش المصري، بما امتلكه لحظة دخول معركة العبور، ليس لديه ما يكفي من السلاح الجوي، ومن أجهزة الرادار، لحماية العمق المصري، والتحرك شمالًا. فقد كان، كما تشير الدراسات العسكرية، عن تلك الحقبة، يفتقر إلى القاذفات الجوية الضاربة بعيدة المدى، وأسلحة الردع الأخرى، حيث امتنع السوفييت، حتى تلك اللحظة عن تزويده بصواريخ سكود. وما امتلكه من طائرات الميراج الفرنسية، كان محدوداً ولا يكفي لمواجهة متطلبات معركة كبرى.

ومهم في هذا السياق، أن نشير أن هذا التحليل، لم يكن موضع إجماع من قبل القيادة العسكرية المصرية. فقد كان هناك رأي آخر، يشير إلى أن المفاجأة شبه الكاملة وقوة الاندفاع المصري في عبور القناة، من شأنها أن تخلق حقائق جديدة على الأرض، تسهم في تطوير مسار الحرب، وتساعد على تقدم القوات المصرية في عمق سيناء، وصولا إلى ممري متلا والجدي.

لكن ما أطلق عليه بالوقفة التعبوية، مكنت «إسرائيل»، من استعادة المبادرة، بعد صدمة المفاجأة التي عانت منها قياداتها العسكرية العليا، والقيام بهجوم معاكس، لم يكن له أن ينجح لولا القرار المصري، المتأخر جدا، في تطوير الهجوم المصري. فكانت معضلة ثغرة الدفرسوار، وعزل الجيش الثالث، شرق القناة. ووقف إطلاق النار، في موقف باتت نتائجه السوقية واضحة لصالح «إسرائيل».

على الجبهة السورية، لم تكن لدى القيادة السورية حاجة للقاذفات الجوية بعيدة المدى ولا لصواريخ سكود، نظراً للحجم المحدود لمرتفعات الجولان. وفي الأيام الأولى للحرب تمكن الجيش العربي السوري، من اختراق تحصينات العدو، وحرر جزءاً واسعاً، من مرتفعات الجولان، لكن «الوقفة التعبوية»، للجيش المصري، جعلت القتال، يتركز على الجبهة السورية. ورغم النداءات التي وجهتها قيادة الجيش السوري وحدها، لمصر بتطوير الهجوم المصري، لتخفيف الضغط على القوات المتواجدة في الجولان، تمسكت القوات المصرية، بمواقعها شرق القناة، من غير تطوير لخطة الهجوم الأساسية.

وقد أسهم ذلك، في خسارة الجيش السوري، لمعظم الأراضي التي تم تحريرها، وتهديد «إسرائيل» بالتوجه إلى دمشق، لكن قرار مجلس الأمن الدولي، رقم 338 الذي، طالب بوقف إطلاق النار، حال دون المزيد من الانهيارات على الجبهة السورية.

في الصورة الأخرىٍ، أثبت المقاتل العربي، في هذه الحرب، قدرته على الإمساك بزمام المبادرة، واقتحام الحصون، وتحرير الأرض وتدمير خطوط العدو وإنجاز انتصارات باهرة، على الجبهتين المصرية والسورية. وقد لعب النفط العربي، دوراً تضامنيا قوياً، ومع ذلك تراجع دور السلاح، أمام السياسة، التي صار لها، منذ ذلك الحين الدور الأوحد في تقرير مصير الصراع على المنطقة.

وكان من النتائج الكارثية للحرب، هو احتدام الخلاف بين الفاعلين الرئيسيين فيها، بين قيادتي مصر وسوريا، بسبب ما اعتبره السوريون استغفالاً وغدراً بالوعود التي قطعتها القيادة المصرية لهم، حول خطة الحرب، وأيضاً حول التكتيكات التي اعتمدها الطرفان فيها.

وأياً تكن نتائج الحرب، فإنها أكدت أن العرب يستطيعون، متى ما توفرت لهم الإرادة والقدرة، أن يصنعوا النصر، وأن تضامن العرب شرط لتحقيق انتصاراتهم في مواجهة العدوان. كما أكدت أن انتصار السلاح، ليس دائما شرطاً للانتصار في السياسة.