الشّاه والسلطان: خطّ الزلازل

حجم الخط

منذ أيّام، أرسل لي الصديق والزميل علي شكري مقالاً تاريخياً كتبه عن الصفويين والعثمانيين، سيُنشر قريباً على هذه الصفحات. وكنت، بالمصادفة، اقرأ في الفترة نفسها عن التاريخ العسكري لايران وأفكّر بأسئلة مشابهة (أساساً عبر ثلاثة كتب لكاوه فرّوخ، واحدٌ عن العسكرية في ايران القديمة، وآخر عن التاريخ العسكري لايران منذ المرحلة الصفوية، والثالث عن خيالة النخبة الساسانية ــــ وكتابات فرّوخ ليست جيّدة أو عميقة بالمعنى التأريخي أو لفهم الأحداث والمجتمعات، وهو كثيراً ما يقرأ التاريخ عبر عدسةٍ قومية ايرانية ناقصة وفيها أسطرة، الّا أنها مفيدة للغاية في التفاصيل الحربية وتطوّر الجيوش واصلاحاتها). غير أنّ همّي لم يكن في تقييم هذه السّلالات وأدوارها، وهذه مسألة اتّخذت طابعاً عدائياً وحساساً منذ الصراع بين العثمانيين و«القزلباش» الصفويين، ثمّ أعيد تكريرها خلال الحروب الأهلية العربية والدعاية الطائفية المجنونة (حيث يصبح الصفويّون، الذين حوّلوا ايران الى التشيّع، بمثابة «جوهر» الشرّ والخطر، ويستعاد هنا مزيجٌ من الخطاب العثماني وأدبيّات الحرب العراقية ــــ الايرانية).

حربٌ تأسيسيّة

لن ندخل هنا في موضوع «التقييم» لأنّه سؤالٌ شبه مستحيل، وأيّ مراجعة أخلاقوية لهذه السلالات ــــ بمقاييس زمننا ــــ لن نخرج منها بـ«أبطال» و«شياطين»، بل بخلاصة أن كلّ أجدادنا كانوا مجرمين. على سبيل المثال، الصفويون كانوا شديدي الدمويّة والبطش مع سنّة ايران ومسيحيّي جورجيا. ولكن المصادر العثمانية، بالمقابل، كان تحفل بعد كلّ معركة بأنباءٍ فرحة عن بناء أهراماتٍ من جماجم «القزلباش» (وقد أمر السلطان سليم بعد معركة تشالديران الشهيرة بإعدام كلّ أسرى الصفويين على الفور). أقام الشاه عبّاس مجزرةً ضدّ سنّة بغداد حين استعادها من العثمانيين، في ما قد يكون محاولة لـ«تشييع» المدينة؛ ولكنّ مراد الرّابع بدوره، حين دخل بغداد بعدها بسنوات، قتل الآلاف من سكّانها (30 الفاً بحسب المصادر، اذ وقع انفجارٌ كبيرٌ أودى بحياة كثيرٍ من الحامية العثمانية، فاتّهم السلطان البغداديين بتدبير الأمور بالولاء للصفويين). تعاون الصفويون مع البرتغاليين في بداية عهدهم، ووصفهم القائد البحري البرتغالي الباكيركي بـ«سهمٍ في صدر الاسلام» بسبب صعودهم المفاجئ في خاصرة العثمانيين، الذين كانوا يقتحمون اوروبا؛ ولكن البرتغاليين أنفسهم حاربوا الصفويين بعدها بقليل، واستولى الباكيركي على هرمز، التي لم يخرج منها الّا بعد قرنٍ (وبمعونة قدمها البريطانيون للصفويين الذين كان لديهم نقصٌ فادح في القدرة البحرية، ولم يكن لديهم اسطولٌ حربيّ حتى في بداية عهدهم. وقد اكتمل اخراج البرتغاليين من المنطقة عبر جهد العمانيين، الذين طردوهم من مسقط ومومباسا). من جهةٍ أخرى، لم يتوانَ مراد الرابع عن توقيع معاهدة سلامٍ مع الامبراطور النمساوي تحديداً لكي يجرّد حملةً ضخمة عام 1629، كانت الحرب الكبرى الأخيرة بين العثمانيين والصفويين، ضدّ ايران.

همّنا هو عن تأثير هذا الصّراع بين السلطان والشّاه على تشكيل الخارطة البشرية الحالية في اقليمنا، وعلى الحدود والثقافة وتحديد «الهوامش»، وبشكل أخصّ: التأثير المدمّر لهذه المنازلة على شريطٍ هائل يضمّ العراق وكردستان وشرق الأناضول، وصولاً الى جنوب القوقاز؛ مساحة هائلة تحوّلت حرفياً الى «ميدان حربٍ» لأكثر من قرن ــــ قبل أن تصبح «منطقة حدودٍ» متوتّرة (ومقفلة في أكثر الأحيان)، تمتدّ من مدينة قارص واذربيجان شمالاً وصولا الى بغداد والبصرة. يجب أن نتذكّر هنا أنّ العراق تاريخياً لم يكن «البوابة الشرقيّة» وجبهةً مشتعلة ضدّ ايران، بل كانت بلاد الرافدين فعلياً ــــ منذ أيام البارثيين ــــ بمثابة «المحافظة الثريّة» في الامبراطورية الايرانية. فيها السهل الرسوبي الخصب والأراضي المنتجة، وفيها العاصمة والنخبة والنبلاء. وقد تابع العراق وبغداد هذا الدّور الى حدٍّ بعيد في ظلّ الخلافة العبّاسيّة (ومنذ سيطرة عسكر الديلم البويهي على بغداد، أصبح من المعتاد مجدداً أن من يتحكم بالهضبة الايرانية، وبالقبائل المحاربة التي تتدفق من وسط آسيا والقوقاز، وأكثرها كان تركيّاً، يسيطر على الحكم في بغداد). بل، كما يقول الكاتب حسن الخلف، فإنّ انحدار بغداد لم يحصل (كما تتخيّله الذاكرة الشعبية العربية) في لحظةٍ دراماتيكية حين أسقطها هولاكو، بل إنّ بغداد ازدهرت بعد ذلك، وظلّ العراق «مركزاً» وصلة وصلٍ وموقع انتاج. التدمير الحقيقي لبغداد حصل مع تيمور، الّذي هجّر أهلها ونقل نخبتها وحرفييها وألغى مكانتها المعنويّة كـ«بيتٍ للخلافة» ــــ وهذا كان في بداية القرن الخامس عشر، بعد هولاكو بقرنٍ ونصف قرن. ثمّ تعمّق الانحدار في مرحلة الصراع الصفوي العثماني، حين أصبح العراق (ومعه شرق الاناضول واذربيحان) ساحة حربٍ مفتوحة لأكثر من قرن، ثمّ «أقفلت المسألة» مع تكريس بلاد الرافدين ــــ العراق العثماني ــــ اقليماً حدودياً، «هامشياً»، مُغلقاً على محيطه والعالم (على الرغم من جهودٍ عثمانية في مراحل مختلفة للاستثمار في العراق وإعادة احياء اقتصاده وإدارته). الحرب بين الامبراطوريتين، وهذه أحداثٌ من القرن السادس والسابع عشر، أي أنّها قريبةٌ نسبياً، تشرح الكثير عن مسلّمات ــــ التي لا يجب أن تظلّ «مسلّمات».

صعود سلالة

لولا الصفويين، ولولا اعتماد مؤسس السلالة الشاه اسماعيل على مزيجٍ من التنظيم الصوفي العسكري والعقيدة والتحالفات مع القبائل التركمانية وغيرها، لكان من الممكن تخيّل حاضرٍ مختلفٍ تماماً، لا تكون ايران فيه موحّدة أو موجودة حتّى الا كمفهومٍ اركيولوجي، وايران لم تكن متحقّقة كـ«كيان سياسي»، حين ظهر الصفويون، منذ ما يقارب الألف عامٍ قبل ذلك. كان من المحتمل أن تنقسم ايران الى امارات تركمانية، أو يستولي العثمانيون على غربها والأوزبك على خراسان وهرات وسيستان. أكثر من ذلك، فإنّ مهمّة بناء «امبراطورية ايرانية» كانت شبه مستحيلة اذ أنّه، الى جانب كلّ التحديات الداخلية، كان عليك بناء دولة تقدر على شنّ حربٍ على جبهتين متباعدتين في وقتٍ واحد، جبهةٌ في الغرب ضد السلطان وفي الشرق ضد الأوزبك ومغول الهند (وبعدهم الأفغان). من الأسباب الرئيسية التي جعلت الجيش الصفوي في أوّل أيامه مكوّنا بالكامل من الخيّالة «القزلباش» هو حاجة الشاه الى التحرّك السريع بين الشرق والغرب ــــ وقد جرى بالفعل أن كان شاه ايران على وشك بدء حملةٍ في خراسان حين سمع باجتياحٍ عثماني قرب تبريز، فاستدار ليسير الفي كيلومترٍ في الاتجاه المعاكس. العثمانيون، بالمقابل، كان جيشهم الامبراطوري أضخم عددياً بكثير، بطيء وثقيل ولا يمكنه الخروج في حملةٍ كل سنةٍ أو سنتين ولكنّه، حين يصل أخيراً الى ميدان القتال، كان في الغالب يحقق انتصاراتٍ ساحقة.

لم يرث اسماعيل المكانة والزعامة الدينيّة وحدها، بل ورث ايضاً عن أبيه (حيدر) تنظيماً عسكرياً فاعلاً. فحيدر ابن الجنيد هو من ركّز على بناء قوّة محاربة محترفة من مؤيديه، وهو من ميّزهم بالقبعة الحمراء الشهيرة التي أعطتهم اسمها (وينبثق من الطربوش الأحمر اثنا عشر شريطاً أسود، ترمز الى الأئمّة). ويروي كاوه فرّوخ أن حيدر كان يصنع دروعه وسيوفه بنفسه ــــ وبينها درع «الجوشن» الشهير في ايران والعراق، وهو كان مزيجاً من الدّرع المكوّن من سلاسل صغيرة متشابكة (mail armor) وصفائح الحديد. الدّرع المتسلسل خفيفٌ ويسمح بمرور الهواء ويحمي جيّداً من نصال السيوف، ولكنّ حمايته ضعيفة ضدّ النبال، فكان مزجه مع صفائح خارجية في قميص «الجوشن» ينتج درعاً مثالياً في الوزن والحماية. واسماعيل نفسه كان عبقري عسكرية من الطراز الأوّل، انتصر في سلسلةٍ طويلة من المعارك ضدّ جيوشٍ أكبر منه بكثير، حتّى وصل الى تتويج نفسه شاهاً في تبريز (يقول فرّوخ إن لوحةً رسمها اوروبي معاصر لاسماعيل تظهر بوضوح الأصول الكردية لعائلته، بملامحه ولحيته الحمراء، وإن زعم الصفويون أصلاً عربياً يعود الى آل البيت).

ولد اسماعيل في خضم العنف والحرب والمأساة. أسلافه الثلاثة (جده وأبوه واخوه) كلّهم قتلوا في الميدان، واسماعيل نفسه كان اسيراً لدى زعيمٍ تركماني وهو طفلٌ قبل أن يهرب ويبدأ بجمع أنصاره وتنظيم الحملات. هناك قصة مذهلة خلف سيرة اسماعيل تستحقّ أن تروى هنا. على ما يبدو، كان الشّاه يؤمن حقّاً بأنّه المهدي، وأنّه من المستحيل أن يُهزم أو يُقتل. وهذا اعتقادٌ كانت تعزّزه انتصاراته العجائبية ضدّ مختلف الخصوم، والمجازفات الشخصية التي كانت تصل الى حدّ التهوّر المجنون (وكان يخرج منها سالماً على الدوام). ثقة اسماعيل جعلته لا يقود قوّة فرسانه بنفسه فحسب، بل كان يقتحم خطوط العدوّ بلا تفكير. يروي فرّوخ، مثلاً، معركة واجه فيها اسماعيل جيشاً تركمانياً يفوق الـ140 ألفاً، أكثرهم فرسان، وهو معه أقل من عشرين ألف فارس من نخبة «القزلباش». كان الجيش التركماني منظماً في سبعة صفوف متوالية، فاخترق اسماعيل مع فرسانه أربعةً منها، ووصل الى قائد جيش الخصم وقتله بنفسه. أو حين لمح السلطان سليم (خلال معركة تشالديران الفاصلة) اسماعيل في الميدان، فأرسل اليه أحد أبطال الانكشارية ليغريه بالنزال، فسارع اليه اسماعيل من دون تردّد وقطع رأسه بسيف الـ«شمشير» (وهو سيفٌ ايرانيّ مقوّس، متقدّم تقنياً وصناعته صعبة؛ مثالي لاستخدام الخيالة والمشاة معاً، وكان من أسباب التفوق الدائم للصفويين على العثمانيين في القتال القريب). المثير هو أنّ اسماعيل، حين تلقّى هزيمته الأولى في تشالديران، ورأى الموت وشعر بالخوف للمرة الأولى، انقلبت روحيته بالكامل. كالانسان الذي تصيبه ضربة فيفقد ثقته بالكامل، أو تنكسر صورته عن نفسه. كالرياضي الذي يتوقّف، فجأة، عن الأداء والتسجيل. بعد تشالديران، لم يعد اسماعيل ينزل الى الميدان بنفسه، ولم يعد يخاطر، بل انزوى وانغمس في حياة القصر والصيد واللهو. ولم يظهر شاهٌ صفوي من طرازه حتى زمن الشّاه عبّاس (ولعبّاس ايضاً قصّةٌ تصلح أمثولة للأنام. فهو حين وصل الى الحكم وكان جيشه في مرحلة دونية كاملة، والعثمانيون يحتلون شمال غرب ايران وكامل العراق، أقام معهم معاهدة مذلّة، وصبر عليهم لثلاثة عشر عاماً كاملين، ليعيد إصلاح الجيش وانهاء التهديدات في الشرق، قبل أن ينقضّ على العثمانيين ويكتسح اذربيجان والقوقاز والعراق، وصولاً الى دياربكر).

دورة التدمير

الفكرة هنا هي أنّه، عدا عن خلق الحدود السياسية، فإنّ هذه الحروب قد دمّرت هذا الاقليم الحدودي بشكلٍ كامل. مدن مثل تبريز وبغداد وأردبيل مرّت بها الجيوش المتحاربة، ذهاباً واياباً، أربع أو خمس مرّاتٍ خلال قرن. حصلت مجازر هائلة وإبادات متبادلة، ولا أحد سيستثمر في اقليمٍ لا يعرف إن كان العدوّ سيدخله غداً أو سيتحوّل الى متراس. فوق ذلك كلّه، فإنّ التكتيك الأساسي للصفويين ضد الحملات العثمانية الضخمة كان «الأرض المحروقة». تدمير كلّ شيءٍ في طريق الجيش العثماني حتى يخسر خطوط امداده ولا يتمكّن من التقدّم (حتّى لو دخلت تبريز، فأنت لن تتقدّم داخل ايران). في مثالٍ واحد على دورة التدمير هذه: بعد أن استعاد عبّاس بغداد وكردستان واذربيجان، عرف بأنّ السلطان لن يلبث بأن يرسل حملةً ضخمةً ضدّه كالعادة، فـ«استبق الأحداث» وقام بتحويل كامل المنطقة بين ارضروم وتبريز الى «أرض محروقة». دمّر كل القرى والبلدات، وهجّر كل القاطنين هناك (أكثر من 300 ألف، أي ملايين الناس بمقاييس اليوم) الى داخل ايران، حتى لا يجد الجيش العثماني، لمسافة طويلة، بئراً أو بيتاً أو حقلاً مزروعاً.

ليس من الصّعب أن نتصوّر تأثير هذه الاحداث على «الدينامية الحضارية» في العراق وشرق الاناضول وغرب ايران. بل هي تفسّر الكثير من الظواهر الحاليّة: مثلاً، الوضعية «الهامشية» لكردستان العراق. لماذا تبدو ريفاً معزولاً، ليس فيه مدنٌ أو مركز (اربيل والسليمانية لم تصبح «مدناً كردية» الا في فترة متأخرة). والسبب هو أنّ «عاصمة» كردستان الفعلية كانت اردبيل (الى جانب دياربكر غرباً)، وأكثر حواضر كردستان في ايران. وحين فصلتها الى جزئين، أصبح شرق الأناضول وكردستان العراق بمثابة «هامشٍ لهامش». أنا لا أزكّي على أحدٍ في هويته ولكنني، لو كنت كردياً، لأخذت خطوةً الى الخلف عن سردية القومية «على النمط الاوروبي»، ولفضّلت أن أعتبر نفسي، تاريخياً، جزءاً من «الشعوب الايرانية» ــــ وهي الحقيقة ــــ وأنّ حدود سليم واسماعيل كانت هي «سايكس ـــــ بيكو الكردية»؛ وأن مكاني الطبيعي هو أن أعيش، في بوتقة حضارية توحّد الأكراد، الى جانب الاذريين والفرس والعرب ــــ هذا بدلاً من الطموح الى انشاء أربع دولٍ جبلية مستقلّة.

كما يكتب فرّوخ، فإنّ «خطّ النار» بين الامبراطوريتين قد أورثنا حدوداً متنازعة، وأكراداً وعرباً انقسموا على جانبي الحدود، وتوتّراتٍ استمرّت حتى عصرنا هذا وانفجرت في حرب ايران والعراق. وهناك، بالطبع، من سيرعى «خطوط النار» هذه ويحاول أن يؤبّدها ويحوّلها الى ثقافة، كما جرى من استرجاعٍ لشعارات «البوّابة الشرقية» و«درع العرب في وجه ايران»، كأنّ دور العراق الأزلي هو أن يكون جبهةً ومنصّة حرب.

أذكر مؤرّخاً فلسطينياً يدرس المرحلة العثمانية، لاحظ لي أنّنا في «ذاكرتنا الشعبية» عن ماضينا، نجد عموم العرب متعلّقين بالمرحلة الكلاسيكية (كالخلافة العباسية أو صدر الاسلام) وينغمسون في تفاصيلها، وبعضهم عالقٌ فيها، فيما أنّ الاهتمام بالقرون الأخيرة من زمننا (وهي القرون المؤسسة لحاضرنا اليوم، وحدودنا وكياناتنا، وحتى لأصولنا كأفراد وجماعات) ليست حاضرةً في هذه الذاكرة ولا تلقى اهتماماً. كما مع الحالة المبكرة لـ«القومية اللبنانية» وخطابها، انت لا تعرف اليوم حين يتكلّم «الاقليميون الجدد» على سوريا والعراق مثلاً، أي سوريا والعراق يقصدون. هل تتكلّم على عراقٍ في رأسك هو العراق الآشوري والعباسي، المركز الامبراطوري، أم عن عراق اليوم، الدولة الحديثة، والذي هو ــــ كمحيطه ــــ بلدٌ صغيرٌ متخلّف، لم يحقق التنمية، ولا يملك سوقاً داخلية ودوراً واضحاً واندماجاً مع محيطه؟ من هنا ايضاً نفهم، في ذكرى الحرب المدمّرة بين ايران والعراق، أنّ من يستعيد التراث العثماني عن «العراق البوابة الشرقية»، ويحلم على الدّوام بمحاربة «الصفويين»، لا يعرف أنّ هذه الصورة التاريخية التي يستحضرها، ويريدنا أن نعيش فيها للأبد، لا تمثّل «الدور الطبيعي» للعراق، بل هي كانت الاستثناء، ومن أسباب ضعفه وانحداره، وأكثر مراحل تاريخه ظلاماً.