العسكر ودور وطني تقتضيه الضرورة

حجم الخط

الانقلابات العسكرية التي قام بها الضباط العرب الأحرار في الجيوش العربية رغم المآخذ عليها من حيث طابعها الاستبدادي ومعاداتها لقضية الديموقراطية، حيث ناصبت العداء لكلا التيارين الإسلامي واليساري الماركسي، رغم هذا الطابع لهذه الانقلابات العسكرية، إلا أنها فتحت الطريق نحو التحول من أنظمة يقودها تحالف طبقي رأسمالي اقطاعي متخلف تربطه علاقات التبعية بكل أشكالها مع النظام الرأسمالي الامبريالي العالمي، إلى ثورات وطنية معادية للاستعمار وسياسة الأحلاف، ورفعت شعار تحرير فلسطين. هكذا كانت ثورة 23 يوليو المجيدة في مصر، وثورة تموز في العراق، وثورة سبتمبر في اليمن، وثورة الفاتح في ليبيا، حيث أسقطت هذه الانقلابات العسكرية العربية النظام الملكي المرتبط بالاستعمار الذي يجثم بقواعده العسكرية في أراضي تلك الدول، وبذلك لعبت ما توصف بالعسكرتارية العربية دورا وطنيا في مرحلة الخمسينات والستينات، لكنها في مرحلة السبعينات تراجع هذا الدور السياسي بتراجع المد القومي أثر هزيمة يونيو حزيران 1967، ثم بتحول مصر عن دورها القومي القيادي بعد حرب أكتوبر والصلح مع الكيان الصهيوني (اتفاقية كامب ديفيد ).

بتراجع المد القومي وبروز فاعلية الإسلام السياسي نشطت التنظيمات التكفيرية المعادية للتيارات الوطنية والقومية والديموقراطية، وكان هدف عملياتها إسقاط الدولة الوطنية الحديثة التي تشكلت عقب الحصول على الاستقلال السياسي، وكذلك تبديد فكرة العروبة ومعاداة المشروع القومي العربي الوحدوي، باعتبار أن المشروع الإسلامي هو البديل، حيث أنه لا يعترف بالانتماء الوطني والقومي، ويذهب إلى أن "الجهاد" في كابول هو كالجهاد في القدس المحتلة، وهذا ما تم ممارسته في أفغانستان حين جندت المخابرات المركزية الأمريكية، بالتنسيق الكامل مع العديد من الأنظمة العربية الرجعية، وفي مقدمتها أنظمة الخليج ونظام كامب ديفيد المصري، ما عرفوا باسم المجاهدين العرب - الذين من رحمهم ولد وتنظيم القاعدة الإرهابي بقيادة أسامة بن لادن -  لمحاربة الاتحاد السوفييتي السابق، الذي قام بدعم الثورة الأفغانية ذات التوجه الاشتراكي التي أطاحت بالنظام الملكي الرجعي في كابول. هكذا هي بوصلة التنظيمات السياسية الإسلامية المتطرفة الآن، موجهة ليس على ممارسة الجهاد ضد الكيان الصهيوني الكولونيالي العنصري المدعوم امبرياليا من الولايات المتحدة الأمريكية، والذي يحتل القدس العربية ويستبيح مستوطنوه اليهود العنصريين المسجد الأقصي المرتبط بالعقيدة الإسلامية، بل هي موجهة بشكل أساسي نحو التحالف مع القوى الرجعية العربية المدعومة من واشنطن لإسقاط الدولة الوطنية، كما كان جار في سوريا، وذلك من خلال استهداف قواتها العسكرية، لذا فإن الضرورة الوطنية السياسية في هذه الحالة تقتضي الآن، وفي ظل تراجع فاعلية الأحزاب الوطنية والقومية والديموقراطية، وعدم قدرتها على إنجاز مهام الثورة الوطنية والديموقراطية التحررية التي تعمل على تخليص الواقع العربي مما هو فيه من البؤس السياسي والاجتماعي، ومن علاقة التبعية بكل أشكالها مع النظام الرأسمالي العالمي... الضرورة السياسية التحررية تقتضي أن تعود المؤسسة العسكرية العربية إلى ممارسة دورها السياسي الوطني التي قامت به في مرحلة الخمسينات والستينات، كي تنهي هذه الفوضى السياسية والأمنية التي تسود في بعض دول المنطقة والتي تجد الدعم من قوى إقليمية ودولية.

إن الهدف المرسوم الذي تسعى إلى تحقيقه هذه القوى بقيادة الامبريالية الأمريكية والحركة الصهيونية العالمية في النهاية، هو إحداث التغيير بشكل كامل في معالم الخارطة السياسية العربية، وذلك من خلال إعادة تجزئة المنطقة مرة أخرى، ولكن على أساس ديني وطائفي وعرقي تذوب فيه الرابطة القومية العربية بشكل تام، وهو ما أصبح ما يعرف في التوجه السياسي الاستراتيجي الأمريكي بخلق شرق أوسط جديد، يتمتع به الكيان الصهيوني بنفوذ سياسي واقتصادي وأمني بالتطبيع معه والاعتراف المتتابع به، ومم أعلى المستويات السياسية مع غالبية دول الخليج العربي التي أدارت ظهرها للقضية الفلسطينية .

ان إعادة دور المؤسسة العسكرية في إحداث التغيير السياسي في المنطقة العربية، هو ما تفرضه الحالة السياسية العربية المتردية الآن، باعتبار أن ذلك هو دور وطني يأتي في مرحلة تتطلب استنهاض جديد للجماهير العربية التي انكفأت مطالبها على تحسين أوضاعها المعيشية، غير مبالية بالهم الوطني والقومي، وقد سبق لهذه الجماهير أن التفت في الماضي حول أسلوب الانقلاب العسكري الذي يقوده مجلس قيادة الثورة الذي يضم في عضويته كبار الضباط الأحرار، ومصر عبد الناصر نموذجه الأوضح والأنصع.