مشاهد من مسرح الكوميديا السوداء... حادثة خاشقجي نموذجاً

حجم الخط

اعتدنا على عالم السياسة ومفارقاته بشقيها المأساوي والساخر، غير أننا في الأسابيع الماضية شهدنا دراما حقيقية ومكثفة تعج بالصور المركبة والمتناقضة، تداخلت فيها مشاهد مأساوية لتصنع لنا فصولاً من الكوميديا السوداء على مسرحها الراهن.

فقد شكّلت قضية إعدام الصحفي جمال خاشقي فصلاً من الفصول المثيرة التي تنطوي على مشاهد كوميدية سوداء، فحادثة الإعدام "لصحافي" مثل الخاشقجي بهذه الطريقة البربرية تكشف مدى فظاعة هذه الجريمة من جانب، ومن جانب آخر، فإن فظاعة هذه الجريمة وتنفيذها بهذه الطريقة أضفى عليها نوعاً من الكوميديا السوداء، حتى أصبح الأمر أشبه بفيلم كوميدي يدور عن جريمة نُفذت بطريقة غبية ولكن فظيعة. جريمة تفتح الأبواب الموصدة للعالم الخفي والتاريخ الأسود للعائلة الملكية السعودية، جعل منها مادة إعلامية مكثفة للتهكم والسخرية والاستفسارات.

مراسل مجلة "إيكونومست" البريطانية العريقة "غريغ كالستورم" تساءل ساخراً حول رواية النيابة السعودية لمقتل "الصحفي" في قنصلية بلاده في إسطنبول، حيث تساءل عن سبب وجود منشار مع أحد المتهمين السعوديين في جريمة قتل الصحفي بقنصلية بلاده، إن الأمر برمته يشبه الكوميديا السوداء في دولة بيروقراطية عربية".

ويتابع الصحفي قائلاً: يقول السعوديون أن "فريق التفاوض" قُسم إلى فريق للتفاوض، وفريق مخابرات، وفريق لوجستي، يا ترى إلى أي فريق ينتمي خبير الطب الشرعي الذي جاء بمنشار"؟

هذه الجريمة المروعة المملوءة بالكوميديا السوداء والتي شغلت الرأي العام، نالت استنكار وإدانة من العالم أجمع، حتى من الإدارة الأمريكية نفسها، وسرعان ما تحوّل موقفها إلى فصل الجريمة نفسها عن الاتهامات بحق الأسرة الحاكمة وبن سلمان ولي العهد تحديداً، في سياق استثمار هذه الجريمة لمواصلة سياسة الحلب والابتزاز التي انتهجها ترامب ضد المملكة. ويمكننا تتبع تصريحات الإدارة الأمريكية لنكتشف حجم الاستثمار الأمريكي لهذه الجريمة، فعقب الإعلان الرسمي عن مقتل خاشقجي قال ترامب في تصريحات صحافية في تعقيبه على عملية القتل: أنه إذا كان هناك مسئول عن جريمة قتل الصحفي السعودي خاشقجي فسيكون ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان.

فعند سؤاله حول تورط الأمير محمد بن سلمان المحتمل في جريمة القتل قال ترامب: "حسنا، الأمير يدير الأمور هناك أكثر من أي شخص آخر في هذه المرحلة، فهو يدير الأمور، وإذا كان هناك أي شخص فسيكون هو".

ولكن بعد أسابيع قليلة، قال الرئيس ترامب في تصريحات صحافية أخرى: "يبدو أن محمد بن سلمان لم يكن على علم بمقتل الصحفي خاشقجي في القنصلية السعودية بمدينة إسطنبول التركية"، في إشارة ربما لصفقة عقدت بين الطرفين حمُلّت بواسطتها مليارات الدولارات إلى الخزينة الأمريكية.

هذه الكوميديا السوداء كشفت أيضاً عن مدى وحجم العلاقة التي تربط بين الكيان الصهيوني وبين دول الخليج، وقد كشفت تصريحات رئيس وزراء العدو " بنيامين نتنياهو" حول العملية رغبة الطرفين في الاحتماء بالآخر في سياق تحالف المصالح. فقد قال " نتنياهو" رداً على هذه مقتل خاشقحي: "عملية القتل كانت رهيبة، إلا أنه من المهم أن تظل السعودية مستقرة ويجب أن نجد طريقة لتحقيق الهدفين، أعتقد أن المشكلة الأكبر هي إيران ويجب أن نتأكد بأن إيران لا تواصل الأنشطة المعادية التي كانت تقوم بها في الأسابيع الأخيرة في أوروبا"، وهذا جعل وزير الخارجية البحريني يثني على " نتنياهو" بعد ساعات من تصريحاته.

كما أن وزير الطاقة الإسرائيلي " يوفال شتانتيز" قال أن قتل خاشقجي عمل خسيس، إلا أنه استدرك قائلاً: "أن إسرائيل معنية أكثر بتعزيز العلاقات مع الخليج في إطار تصديها لإيران".

هذا الغزل بين الطرفين وحالة الكوميديا السوداء التي أفرزتها عملية القتل "للصحفي" خاشقجي، تفتح ملف العلاقات الخليجية الإسرائيلية، والتي بدأت منذ مطلع السبعينيات، والآن العلاقة تأخذ طابعاً رسمياً ومنحاً متصاعداً ومتسارعاً في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية والاستخبارات والدبلوماسية، حيث تشير التقارير أن هناك علاقات قوية جداً تربط الكيان الصهيوني مع الإمارات يمكن وصفها بالأفضل بين دول الخليج.

وتعود العلاقات السعودية الإسرائيلية إلى فترة السبعينيات، حيث أجرى مدير المخابرات السعودية "كمال أدهم" آنذاك اتصالات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني، وشملت الاتصالات نقاشاً معمقاً حول مستقبل المنطقة والسياسات الخاصة بها. كما وبرزت في منتصف الثمانينات علاقات متأصلة بين الكيان الصهيوني وكل من مسقط والدوحة، ولتأصيل العلاقات بين تل أبيب ومسقط والدوحة، قام رئيس وزراء العدو السابق" رابين"، بزيارة سلطنة عُمان عام 1994، والتقى هناك بالسلطان "قابوس"، وفي عام 1996 فتحت مكاتب تمثيل تجارية مفتوحة بين الطرفين وأيضاً مع قطر، كما ينظم سياسيون عمانيين وقطريين زيارات منتظمة إلى الكيان الصهيوني.

وقد شكّلت زيارة رئيس وزراء العدو " بنيامين نتنياهو" إلى عُمان ولقائه السلطان قابوس قبل عدة أسابيع، تأكيد على تنامي العلاقات الخليجية والإسرائيلية.

أخيراً، تظل حادثة مقتل "الصحافي" خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول شاهدة على كوميديا سوداء، يفترض أن تشكل عملية التحقيق فيها مسرحاً للكشف عن الجرائم المدفونة، وعن العلاقات الخفية بين دول الخليج وأطراف دولية تعادي شعوبنا ومنطقتنا.