المشهد الثقافي الاعتقالي بين الإبداع والتجاهل

حجم الخط

منذ تكونت نواة الحركة الوطنية الأسيرة وهي تجد لنفسها حيزاً للتغلب على واقعها المغلق عبر أدوات ووسائل تمكنها من استثمار الزمن والوقت، حتى لا ينتصر الآخر المتربص بكل قصاصة تحمل فكرة أو خاطرة أو كلمة، وهذا ما يربك ويحبط نوايا العدو الذي يجهد في محاولاته إغراق الأسير في تفاصيل يومية، بحيث لا يعود أمامه متسع لشيء آخر، وعلى النقيض في المشهد ذاته، يحاول الأسير الفلسطيني بكل ما أتيح أمامه وما يبتكره من فرص أن يرتقي بواقعه وبذاته، ليكون ركناً فاعلاً في هذه الحركة الوطنية، يجهد هو الآخر لصقل وتغذية مواهبه وملكاته بشتى الطرق، وينجح الكثيرون كل بطريقته الخاصة. فمنهم من انخرط في النضال الاعتقالي التقليدي لمواجهة إدارة مصلحة السجون، لتحسين شروط الحياة اليومية للأسير وغير ذلك، وثمة من يزاوج بين هذا الشق من النضال والشق الذي لا يقل أهمية وهو تنمية وتطوير المهارات المتعددة ذات البعد المعرفي والثقافي من خلال القراءات المتعددة والمتنوعة، ما بين الفكر والأدب والسياسة والتاريخ وغير ذلك مما يتاح ويسمح به، خاصة وأن هناك سياسة ممنهجة يتبعها السجان تتجلى في التضييق على عملية إدخال كتب من الخارج، أو نقلها وتداولها من سجن لآخر، أو مصادرتها تحت عدد لا ينتهي من الحجج والذرائع الأمنية الواهية، ومع كل هذه العوامل المعيقة يجد الأسير فجوة للمرور عبرها إلى امتصاص الوقت وتعبئته لما يغني عقله. فالمتابع عن كثب واقع هذه الحركة الأسيرة يلمس بوضوح آثار هذا الجهد المضاعف الذي توثقه فئة من الأسرى في محاولات الخلق والإبداع من خلال أعمال روائية وشعرية وقصصية وكتابات سياسية وتاريخية وفكرية وغيرها، مما يشير إلى مستويات رفيعة وصلت إليها هذه الفئة في هذه الحقول المتعددة، منتصرة بذلك على سياسات الإنهاء والطمس والإفشال التي تنتهجها إدارة القمع الصهيونية، وكذلك محققةً هدفاً سياسياً في رفدها المشهد الثقافي الفلسطيني بإنتاجاتها الكتابية التي من شأنها خلق واقعاً حقيقياً ومتيناً لثقافة مغايرة، كثقافة مضادة للتي يصاب بها وعي أجيال بأكملها، تتمثل بالذاتية والفردية واللاوطنية وغيرها من المفردات التي تسيطر على تفكير هذه الأجيال والتي يراد لها أن تظل متخلفة متأخرة لتسهيل عملية التحييد على طريقة الإفراغ والتصفية.

من زاوية أخرى فإن ما يواجه الأسير المبدع صاحب القلم والفكر والرسالة وجوده في داخل دائرة من الجهل به أو التجاهل أحياناً من قبل الجهات صاحبة الشأن والاختصاص، في احتضان إنتاجه الكتابي الذي يعادل الأطنان من الورق والحبر وأكثر من قيمة ومعنى، فهو إذ يحاول الاستعاضة عن حريته المسلوبة بما يخلقه ويبتكره ويبدعه لتحرر عقله وحبره من حدود الجغرافيا والمكان والزمان، الذي يصطدم بجدار الرعاية المطلوبة لما يتم إنجازه، حتى أن الكثيرين توقفوا عن الكتابة وركنوا إلى الصمت يأساً، مادامت الجدران وحدها تردد أصداء كتاباتهم، وحتى إن نجح البعض في العثور على مخرج، وتمكن من نشر عمل ما فذلك بجهد جهيد من الأسير وذويه، وقد كلّت أياديهم لتتمكن من إخراج نص إلى حيز النشر، إن لم يكن ذلك على نفقتهم الخاصة، وليس هذا بالطبع هو الحل المنشود أمام كم ونوع هائلين من المواد المكتوبة الناضجة والتي ترتقي بمستواها إلى درجات لم تصلها أقلام أتيح لها فضاء غير محدود من الإمكانيات والمراجع والقراءات إلخ. ولعل من يواكب حقاً إبداعات الحركة الوطنية الأسيرة يدرك بسهولة حجم القاعدة المعرفية والثقافية التي يستند إليها الأسير المبدع، مع التأكيد على أن ما خرج ويخرج إلى النور ليس إلا النذر مما قيل ويقال، ولا سيما مع ذلك التنوع الفريد قياساً بتوفير المراجع من حيث الرسالة والمضامين التي تحتويها غالبية كتابات الحركة الأسيرة، والتي لم تطرق من قبل، سواء ممن سبق وخاض تجربة الاعتقال على غرار كتابات وتجارب التحقيق وما يرافقها والتي تأخذ شكلاً تعبوياً مهماً في ظروف شعب لا يزال تحت وحل الاحتلال والاستهداف بشتى أساليبه وأشكاله، إضافة إلى الإنتاجات التي تحمل تجارب نضالية تقدم خلاصات مهمة لأناس لم يكتبوا التاريخ وحسب، بل وساهموا في صناعته، وأرخوا لمراحل معاصرة خاضوا معتركاتها بأنفسهم قبل أو أثناء الأسر بمساهمات قد لا يقدر قيمتها البعض، ينتجها الأسير بيديه وبروحه، وقد يحدث بعضها التغيير في ملامح الخارطة الفكرية والأدبية، خصوصاً بأقلام تتجاوز الجدران والخاص والمحلي وتنزع بإبداعاتها نحو المنجز الأدبي الإنساني، ذلك إذا ما لاقت الاهتمام والرعاية والمتابعة والنقل والتحكيم والإصغاء، فها هو الأسير الفلسطيني المبدع يقرع ويركل جدران السجان، بقبضته، بقلمه، بريشته، بإرادته، فلا يعقل أن يظل عرضة للاختناق وسط هذا القهر القائم والمعتم.