أربعون عاماً في السجن

حجم الخط

ثمة في تجربة الأسرى الفلسطينيين، مقارنة بنظيراتها، ما يتاخم الاستثنائي والملحمي، وربما الأسطوري... تجربة يرقد في جوفها مليون حالة اعتقال منذ العام ثمانية وأربعين، ثلاثة أرباعها منذ العام سبعة وستين. تجربة فيها فرادة أن يصبح البعض زائراً متكرراً للسجن، يعتاده كما يعتاد بيته، وتصبح فيها تفاصيل حياة الزنازين معتادة لدرجة الملل. تجربة يُعتقل الشخص الواحد فيها مرات ومرات، ويمكث في السجن، دفعة واحدة، أو على دفعات، عقداً أو عقديْن أو ثلاثة عقود ونصف العقد ويزيد من السنين. تجربة فيها فرادة أن يُفني المناضلون جلَّ العمر في ردهات السجن، فيصبحون، سيرة ومسيرة، على كل لسان، كأنهم ماء عذب صاف يطفئ ظمأ المُستباحين والمشردين وتراباً ينتظر المطر، ويصبحون، بعد الشهداء، ملح الأرض الذي لا يفسد، وضمير الشعب الذي لا يَصدأ.

مناضلون، نذكر منهم، الآن وهنا، عميد أسرى حرية فلسطين، المناضل القائد نائل البرغوثي، الذي دخل الأسبوع الماضي، عقده الخامس في السجن. مناضل لا أصلب ولا أقوى، بإرادته يعارك، منذ أربعين عاماً، هي طول التيه في سيناء، زنزانة ما كسرته، وما عبد عجلاً أو قايض على موقف، كأنه أيوب في صبره، أو قل كأنه جبل راسخ، ملأته حقول العطاء، شامخ كسارية تخفق فوقها رايات الأحرار، أو كأنه والمناضلان القائدان كريم وماهر يونس، اللذان يقتربان من إنهاء العقد الرابع من عمرهما في السجن، يونس، الذي ابتلعه الحوت وقذفه إلى الشاطئ، ولما يقذفهما السجن بعد.

هنا، نحرك سكون زنزانة مناضل قائد يفضح ببطولته ومعاناته، ضلالات غزاة اقتلعوا شعباً، وابتلعوا أرضاً هي وطن، ونسجوا، بخيوط العنكبوت الواهية، تهمة «المُخربين» و«الإرهابيين»، وألصقوها بأسرى وأسيرات حرية فلسطين. غزاة حاولوا شطب التاريخ الحقيقي لأجل أن تسود روايتهم التي طالما ادعوها، فكان أن فضحهم الواقع ودم الشهداء والجرحى، وعذابات الأسرى، وبدد أساطيرهم جذر الزيتون في هذه الأرض، ومواويل الرعاة في قمم الجبال. غزاة يحيكون خرافة لا يصدقها حتى من حاكها، لكنها غطاء على جريمة العصر، بلا منازع، وبلا شك أو ريب.

نحرك سكون زنزانة مناضل قائد جسد معنى التضحية، ويُسعده أن تتذكره الأجيال اللاحقة، وأن تتخذه، ربما، قدوة، ونموذجاً يُحتذى، وألاّ تراه في سكون زنزانته بل فيما يحتضنه السكون، هنا، من نبض حياتي، وجهد بشري، بذله ومئات الآلاف من المناضلين والمناضلات في عتمة ردهات السجن، وأقبية التعذيب، وزنازين العزل والحبس الانفرادي، بدل أن يبذله في فضاءات «بساتين» الحياة المجتمعية العامة والخاصة، و«جِنان» التعلّم والتعليم في المدرسة والجامعة، و«حدائق» العمل المُنتج في المزرعة والمصنع والورشة.

نحرك سكون زنزانة مناضل قائد يرمز لتجربة اعتقالية أسطورية، عمدتها دماء شهداء. حكايتهم حكاية رجال تقدموا الصفوف حتى الاحتراق، وارتقوا جراء الإهمال الطبي، وسوء التغذية، والتعذيب والتنكيل، ومعارك «الأمعاء الخاوية»، والإعدام الميداني فور الاعتقال، والاغتيال داخل السجن، وخارج السجن، داخل الوطن، وخارج الوطن... تجربة شارك في صنعها مناضلون ومناضلات، أورثهم السجن جروحاً غائرة في النفس، وعاهات دائمة في الجسد، حتى صاروا «شهداء مع وقف التنفيذ»، ارتقى كثر منهم داخل السجن، أو بعد التحرر، ولا يزال بعض منهم يصارع المرض والجُرح، ولا ندري، ولا هم يدرون، إذا ما كانوا سيُحرَّرون أو سيرتقون هناك، في زنازين السجون، ومسالخ التحقيق والتعذيب، والحبس الانفرادي، وزنازين ما يسمى «مستشفى الرملة». تجربة بطولة ومعاناة صنعها مئات الآلاف من المناضلين هم ليسوا خارقين، ولا أسطوريين، بل بشر من دم ولحم يختلط في داخلهم الصبر والقهر، الإقدام والإحجام، الاطمئنان والخذلان، الاشتياق والفراق، الجلد والنكد، الرجاء والعناء، الحنين والأنين، الحلم والألم، والاستقرار والاستنفار... مناضلون يتقدمون ويناورون، يُفلحون ويُخفقون، يُخطئون ويُصيبون، يعرفون أشياء ويجهلون أشياء... مناضلون يتوجعون ويتألمون، لكنهم يكتمون الوجع، يكظمون الألم، ولا يبوحون بالشكوى في زمن لا مجال فيه للشكوى. إنه زمن أن تكون أو لا تكون، زمن المقاومة سر الوجود، زمن «حاصر حصارك فأنت اليوم حر». كيف لا؟ و«الحرية هي وعي الضرورة»، وبالبذل والتضحية والعطاء والفداء، تتجسد، وتُنتزع، في كل زمان ومكان.