ذكرى انتفاضة الحجارة

حجم الخط

يصادف اليوم مرور 31 عاماً على اندلاع انتفاضة الحجارة، (1987-1994). تحل ذكرى تلك الانتفاضة الشعبية الكبرى فيما يواجه الشعب الفلسطيني، قضية وحقوقاً ونضالاً ورواية، هجوماً أمريكياً «إسرائيلياً»، (بالمعنييْن السياسي والميداني)، عنوانه مؤامرة «صفقة القرن»، و«قانون أساس القومية» اليهودي، لتصفية القضية الفلسطينية بالمعنى الوجودي للكلمة. بالمقابل، يبدو أن قيادتيْ «فتح» و«حماس» ليستا في وارد اتخاذ خطوات عملية، ولا تتوافر لديهما إرادة سياسية جدية لإنهاء انقسامهما المدمر وطيّ صفحته السوداء، فيما يعلم الجميع أن خيار الوحدة والمقاومة هو خيار الشعب الفلسطيني، وأنه الخيار الوحيد القادر على استنهاضه وانخراطه، بصورة شاملة جديّة وفاعلة، في المواجهة السياسية والشعبية الدائرة لإسقاط هذه الصفقة التصفوية.

ولعل في تجربة انتفاضة الحجارة ما يكفي من الدروس والعِبر والخبرة التي يمكن استلهامها، والبناء عليها في شروط سياسية وميدانية مختلفة، وفي ظروف دولية وقومية وإقليمية ووطنية مغايرة. كيف لا؟ وهي الانتفاضة التي عجز الاحتلال عن وأدها في مهدها، وعجزت إجراءات القمع والبطش والتنكيل عن إخماد لهيبها الذي عمَّ «سهل الشعب كله».

كيف لا؟ وهي الانتفاضة التي خطفت زمام المبادرة من الاحتلال، وعزلته، وأحرجته سياسياً، وتفوقت عليه أخلاقياً، وحيَّدت، بدرجة كبيرة، قوته العسكرية والأمنية والتكنولوجية، اتصالاً بطابعها الشعبي الواسع.

كيف لا؟ وهي الانتفاضة التي نقلت مركز ثقل المقاومة إلى الوطن، بعد خمس سنوات من اختلال ميزان القوى، نتيجة ضرب الركيزة الأولى للثورة، وتشتيت قواتها بفعل اجتياح جيش الاحتلال للبنان، عام 82، ما أثبت أن الشعب الفلسطيني لا يستسلم للظروف المجافية واختلالات ميزان القوى، ولا يكف عن إطلاق مبادراته الكبرى لاستعادة زمام المبادرة.

كيف لا؟ وهي الانتفاضة، (وهنا الأهم)، التي ارتفع، في معمعانها، إقبال الشعب على التنظيم والانتظام، حيث ازدادت، بصورة غير مسبوقة، أشكال التنظيم الشعبي القائم قبل اندلاعها، وانبعثت، من رحمها، أشكال تنظيمية نوعية جديدة، فعدا انطلاق حركتيْ «حماس» و«الجهاد»، نشأت لجان الحراسة (الأمن)، ولجان التموين (الاقتصاد)، ولجان القوات الضاربة، (الدفاع)، ولجان الإصلاح وفك النزاعات، (القضاء)، ولجان التكافل الاجتماعي، (الشؤون الاجتماعية)، ولجان التعليم الشعبي، (التربية والتعليم)، ولجان العمل الصحي، (الصحة)، ولجان استصلاح الأراضي، (الزراعة)، كلجان تتابعها القيادة الوطنية الموحدة «السرية الملاحقة»، (الحكومة)، التي يلتزم الشعب بقراراتها، بصورة طوعية. هنا انتقلت علاقة التنظيم الشعبي المُقاوم بالبرنامج الوطني التحرري من التأطير والتوعية والتعبئة والتحريض إلى تجسيد هذا البرنامج في «سلطة وطنية شعبية».

كيف لا؟ وقد كثف الأمر، هنا، «رابين»، كوزير حرب الاحتلال آنذاك، بالقول: «ينبغي إخراج الجيش من عش الدبابير»، و«ليتني أصحو يوماً لأجد غزة، وقد غرقت في البحر». هنا كانت بداية تفكير قادة الاحتلال ب«الانفصال» عن الفلسطينيين، كإستراتيجية لتحقيق ثلاثة أهداف، هي: إجهاض انتفاضة الحجارة، كحدث وفكرة، وتقليص خطر العامل الديموغرافي الفلسطيني على («يهودية «إسرائيل»،) وتقليص أعباء الاحتلال المادية والأمنية والسياسية والأخلاقية من دون إنهائه. وهذا هو بالضبط ما أضمره، (ونجحوا في تحقيقه)، قادة الاحتلال من وراء موافقتهم على مسار «مدريد أوسلو».

كيف لا؟ وقد قطع مسار «مدريد أوسلو» سياق تلك الانتفاضة، فيما كان المطلوب تطويرها، والتمسك بها، (كفعل واستراتيجية)، أذهلت العالم، وأربكت قادة الاحتلال، وباتوا يخشون تجددها خشية البشر للطاعون، ووحدت الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. إن الاستعجال في استثمار تلك الانتفاضة، هو نقطة البداية لديناميكية التفكيك والانقسام والاختزال الجهنمية التي أصابت المقاومة والحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، والحقوق الوطنية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، كإطار وطني جامع.