واحد وثلاثون عامًا على انتفاضة الحجارة

حجم الخط

منذ بدايات الهجرة الصهيونية إلى فلسطين عام (1882م)، لم يقف الشعب الفلسطيني ساكنًا بل مارس نضاله في مواجهة ذلك العدوان الصهيوني.

لم تتوقف مسيرته النضالية بل تصاعدت تلك المسيرة مع بدء بريطانيا بتنفيذ وعد بلفور عام (1917)، لتصل ذروتها في عام (1936)، في الإضراب الأطول في التاريخ وبالثورة الكبرى (1936 _ 1939).

لم يتوقف النضال الفلسطيني وإن لم يكن بخط صاعد متواصل، حيث اتسم بالصعود والهبوط ارتباطاً بما واجهه الشعب الفلسطيني من صعوبات في مسيرته النضالية.

وانتفاضة الحجارة التي انطلقت في التاسع من كانون الأول من العام 1987، لم تكن في جوهرها إلا استمراراً  لنهج المقاومة الذي سار عليه الشعب الفلسطيني.

هي انتفاضة شعب كامل، سلاحه حجارة بلاده، كانت شرارتها قد انطلقت من مخيم جباليا في غزة، إثر قيام سائق شاحنة "إسرائيلي" بدهس مجموعة من العمال الفلسطينيين على حاجز (إيريز)، ليأتي الرد الشعبي الفلسطيني شاملاً، حيث تفجر فيه غضب السنين ومعاناتها.

في حقيقة الأمر لم تكن الانتفاضة كفعل شعبي معزولة عن سياقها التاريخي، والتحولات السياسية الكبرى التي عاشتها منطقتنا العربية.

كانت أولى تلك التحولات خروج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي بعد توقيعها على اتفاقية صلح منفرد في كامب ديفيد عام (1978م).

وجاء حرف بوصلة النضال لدى الشباب العربي، بتحويله إلى أفغانستان، حيث استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية الدول الرجعية العربية، هذا التدخل كذريعة لجذب "الشباب العربي المجاهد" لقتال السوفييت على حساب فلسطين، وعلى حساب الصراع العربي الإسرائيلي، حيث بدأت قضية فلسطين تفقد مكانتها المحورية لدى الشباب العربي لمصلحة القضية الأفغانية، وهكذا أصبح الصعود الإسلامي الجهادي في تلك الفترة أثمن هدية تقدم ل"إسرائيل" مع ثمانينيات القرن الماضي. 

كما جاءت انتفاصة الحجارة، بعد الحرب العراقية الإيرانية التي فعلت فعلها في إنهاك بلدين من أهم البلدان العربية والإقليمية في التصدي للكيان الصهيوني، ولعبت هذه الحرب دوراً إضافياُ في صرف الانتباه عن القضية الفلسطينية، فكانت تلك الحرب الهدية الثمينة الثانية التي تقدم ل"إسرائيل".

كل شيء كان يسير في ثمانينيات القرن لصالح "إسرائيل" التي وجدت فرصتها لتوجيه ضربتها لمنظمة التحرير الفلسطينية باجتياح لبنان في صيف عام (1982)، وفرض خروج المنظمة من آخر معاقلها في بلدان الطوق العربي، وتشتيت قواها في عدة مناطق عربية بعيداً عن الحدود والتماس المباشر مع العدو. 

تنامى الاعتقاد لدى الأنظمة العربية بعد خروج م.ت.ف من بيروت أن المقاومة الفلسطينية لن تقوم لها قائمة، فبدأ الضغط على قيادة منظمة التحرير الفلسطينية لقبول قراري الأمم المتحدة (242) و (338) تمهيداً للدخول في تسويات سياسية مع العدو الإسرائيلي.

وكان مؤتمر قمة عمان الذي عقد في الأردن بعد خروج منظمة التحرير من بيروت، بمثابة خيبة أمل فلسطينية كبيرة نتيجة اقتصار المؤتمر على تناول حرب الخليج وتحويل القضية الفلسطينية ومعاناة شعب الأرض المحتلة إلى مسألة ثانوية.

مقابل هذه الصورة الصعبة على مستوى المحيط العربي كان العدو يمعن في ممارسة أقصى درجات القمع ومصادرة الأرض والتهويد.

خلال كل  تلك الأحداث، لم يكن الشعب الفلسطيني في الداخل الفلسطيني متفرجاً أو خانعاً إزاء محاولات تصفية القضية، بل قام بالعديد من الهبات الشعبية، أبرزها هبة يوم الأرض عام (1976)، والهبة الجماهيرية عام (1980م) عقب محاولة اغتيال رؤساء البلديات (بسام الشكعة، ابراهيم الطويل، كريم خلف)، وهبة عام (1982) احتجاجاً على قرار "إسرائيل" بحل لجنة التوجيه الوطني.

وسط هذا المناخ الصعب وتلك السياسات الراسخة والتي هدفت إلى تهميش القضية الفلسطينية وعزل م.ت.ف، كانت انتفاضة الحجارة بمثابة الرد الشعبي الفلسطيني الشامل على العدو الصهيوني والأنظمة العربية التي وجدت ضالتها في تلك الظروف للتحلل من القضية وتبعاتها.

كانت انتفاضة الحجارة تتويجاً للتصاعد النضالي الفلسطيني، وانتقالاً تاريخياً ونوعياً في مسيرته النضالية، لصيرورة أكثر ثباتاً وتماسكاً واتساعاً.

كانت الانتفاضة شاملة على امتداد الجغرافيا الفلسطينية وكل ملونات الشعب نجحت في إحداث تغييرات هائلة في بنية المجتمع الفلسطيني، ومن خلال المشاركة المميزة للمرأة، ولا يزال الفلسطينيون يتحدثون بفخر عن قيم التضامن بينهم التي كرستها الانتفاضة.

تأتي الذكرى الحادية والثلاثين لانتفاضة الحجارة والشعب الفلسطيني يواجه تحديات جمة تستهدف وجوده وهويته وقضيته الوطنية.

الإدارة الأمريكية سائرة في خطتها (صفقة القرن)، حيث أقدمت على نقل سفارتها إلى القدس وشرعت في توفير كل السبل لتصفية حق العودة.

في هذه الظروف، فإن ثمة مفارقة تستحق التوقف أمامها، ففي الوقت الذي بات أبناء (جابوتنكسي) والتيار الصهيوني الأكثر تطرفاً هو السائد والمسيطر والذي يتحكم في التوجهات الإسرائيلية، فإن العرب والسلطة الفلسطينية وأتباعها لا يتحدثون إلا بلغة السياسة المبتذلة والاستعداد للتفاوض، كما تدنت طموحات الأنظمة وانحصرت آمالهم إلى درجة السعي لكسب الرضى الإسرائيلي حفاظاً على وجودهم بعد أن فقدوا كل أساس شرعي لوجودهم وأمنهم، وأضحوا مهووسين بالتطبيع واستقبال نتنياهو ووزرائه في عواصمهم، دون أي اعتبار لأي انتماء عروبي أو دون مراعاة لحقوق شعب شقيق.

الرد على هذا الحال لن يكون إلا فلسطينياً بانتفاضة شاملة، تعيد ترتيب البيت الفلسطيني، وتحدث هزة في محتويات البيت الصهيوني، ولكن على الرغم من مرور ما يقارب العقدين من الزمن على الانتفاضة الثانية والمخاطر التي تهدد الشعب الفلسطيني فإن الانتفاضة الثالثة لا تزال غير محققة وهي قيد الانتظار.

وإذا كانت كلمة السر في نجاح الانتفاضة الأولى والثانية هي (الوحدة الوطنية)، فإن الانقسام الفلسطيني وغياب الوحدة بات كلمة السر الكبيرة التي تعطل انطلاق الانتفاضة الثالثة.

الانتفاضة ضرورة وطنية...

إذا كانت انتفاضة الحجارة هي التي وضعت حداً للتعتيم والتهميش الذي عانت منه القضية الفلسطينية ونجحت في وقف عجلات العربة الأمريكية الهادفة إلى تعريب كامب ديفيد، باعتباره الخيار المتبقي والمتاح للعرب (قبل أن يلحق اليمين الفلسطيني بذلك النهج)، فإننا الآن وبعد ربع قرن على وقف الانتفاضة والتوقيع على اتفاقية أوسلو ومعاهدة وادي عربة وما آلت إليه الأمور، بعد كل ذلك ألم يحن الوقت للوقوف مع الذات ومراجعة المسيرة وما جلبته من دمار على المشروع الوطني الفلسطيني؟ ألم يحن الوقت لوضع حد للانقسام، والتشمير عن السواعد لقلب الطاولة على رؤوس المتآمرين والانطلاق للدفاع عن الوطن ومواجهة المحتل؟

في حقيقة الأمر، فإن الانتفاضة ليست ضرورة نضالية للشعب الفلسطيني فحسب، بل أعتقد إنها ضرورة عربية، وانطلاقها من شأنه أن يساعد في وقف الاحتراب الداخلي، واستنهاض الحالة العربية وتصويب البوصلة نحو العدو الحقيقي.

إذا كانت كل الشروط متوفرة لانطلاق الانتفاضة الثالثة ماعدا وحدة الشعب وما يعانيه من انقسام، إذن كيف لنا أن ننهي هذا الانقسام اللعين؟!

صحيح أن طرفي الانقسام بات يستثمر ما يملكه من مزايا السلطة الذي تعطل المصالحة تحت ذرائع شتى ويستطيع أي طفل فلسطيني أن يكشف زيف الاتهامات المتبادلة، لكن أعتقد أن جذر الانقسام يعود إلى أوسلو وما أحدثة من انقسام، الأمر الذي يدفعنا للاعتقاد أن الخروج من الانقسام لن يكون ممكناً بدون تجاوز محطة أوسلو وما خلفته من التزامات وتعهدات، وتقييم كل المرحلة وصولاً إلى توافقنا على مشروع وطني يحقق وحدة الشعب وأهدافه الوطنية وتجاوز موضوع السلطة التي لن تكون موجودة بعد التحرر من التزامات أوسلو، ونتيجة لإعادة بناء م.ت.ف كإطار جامع لكل الشعب الفلسطيني.