الأسير شادي الشرفا يكتب أوقفوا خيبة الأمل

حجم الخط

هناك.. في المعتقل الوحيد المتبقي في أراضي الضفة، في العاصمة الاقتصادية المفترضة رام الله، هناك.. في سجن عوفر على بعد بضعة دقائق من حاجز فلسطيني للأمن الوطني حيث يكاد يسمع الأسرى مراسيم التشريف في المقاطعة التي ينام فيها الرئيس قرير العين، وينام الأسرى على مقربةٍ من كوابيس معاناتهم، هناك معتقل عوفر والذي يتكدس بين جدرانه مئات الأسرى، يحملون على أكتافهم عبء الوطن وقصص الألم وجوع الحرية.

لا تصل سطوة الأجهزة الأمنية الفلسطينية لسجن عوفر، لكن هناك سطوةٌ من نوع آخر، سطوةٌ أثقل في وطأتها من الجلاد الصهيوني وأجهزته الأمنية، اعتدنا هذه السطوة، وباتت مألوفة لدينا، وأجسادنا تحمل الندب الشاهدة على قساوة أيام الاعتقال، لكن هذه المرة كانت مختلفة.. مختلفةٌ جداً.

على مدار يومين في الأسبوع الماضي، أقحمت إدارة مصلحة السجون على الأسرى كل حقدها وجبروتها، جرى هناك ما يسمى في لغة السجون "القمعة" ، لكنها كانت قمعة غير مألوفة ولم يُشهد لها مثيلٌ في تاريخ الحركة الأسيرة إلا فيما اشتهر على وصفه بقمعة عسقلان في يناير عام ١٩٩١.

عوفر، لمن لا يعرف، غالبية الأسرى فيه حديثو الاعتقال، وهناك قسم خاص بالأشبال وهم أسرى مادون السن القانونية بعضهم لا يتجاوز ١٤ ربيعًا. وهناك عدد من الأسرى كبار السن، يتجاوز عمر بعضهم ٧ عقود، كل ذلك لم يشفع لهم، فتعرض الأسرى لواحدٍ من أبشع أساليب التنكيل والضرب والإهانة، بدون أي سبب وجيه سوى مزاودات لما يسمى بوزير الأمن الداخلي تحضيرًا للانتخابات الصهيونية المقبلة، أو ربما بدون سبب، أو لمجرد التأكيد على أن "الأسياد يحكمون داخل الأسوار"، اقتحمت القوات الخاصة لمصلحة السجون: وحدة الماتسادا الملطخة أيديها بالدماء الفلسطينية، ووحدة درور ووحدة اليماس.

لم تكتفي قوات القمع بضرب قنابل الصوت والغاز حتى اختنق الأسرى وارتموا أرضًا يصارعون الموت، بل سحبوا جميع المعتقلين الواحد تلو الآخر واعتدوا عليهم بالضرب المبرح. كانت النتيجة أكثر من ٢٠٠ إصابة بعضها إصابات بالغة، وهذا رقم هائل ولا أذكر رقمًا مثيلًا له في تاريخ الحركة الأسيرة برمتها سوى بقمعة عسقلان الشهيرة قبل حوالي ٣ عقود.

كان من المفترض أن يكون هذا حدثًا جللًا، يهز الشارع الفلسطيني، وتتحرك على أثره كل القوى والفعاليات لمواجهة هذا الانتهاك الخطير لحقوق الإنسان وللقانون الدولي والإنساني، إذ اعتدنا تاريخيًا بأن لا يخذلنا الشارع الذى وقف إلى جانب الأسرى ودعمهم، لكن حقيقة الأمر أننا شعرنا هذه المرة بخيبة أمل. فلم يكن الحراك في الشارع بالمستوى المطلوب، وكأن شيئًا لم يكن، كما عجزت القوى الوطنية عن الاتفاق على يومِ اشتباكٍ مع الاحتلال، وفعالياتٍ لحماية الأسرى وإجبار إدارة مصلحة السجون على إيقاف اعتداءاتها الهمجية مما يشكل خطورة على مستقبل الأسرى. في حقيقة الأمر يتبلور لدينا شعور في الأسر بأننا بِتنا على الهامش، خاصة في الآونة الأخيرة.

لذا، ما الأسباب خلف تراجع الشارع بأشواطٍ، وضَعف ردة فعله؟ وهل هذا تعبيرٌ عن حالة إحباط تسود الجماهير الفلسطينية، أم أن هنالك أسباب أخرى؟

الإجابة على هذه التساؤلات تكمن في ما نُشر في جريدة القدس قبل أيام، إذ نُشرت مناشدة من نادي الأسير الفلسطيني لمقابلة الرئيس محمود عباس بعد عامٍ ونصف العام من المقاطعة. هذه المناشدة غير مسبوقة وتعطي دلالات خطيرة حول المتغيرات التي تزحف تدريجيًا في المؤسسات المعنية بالأسرى، كما تعكس حجم الصراعات الداخلية الفتحاوية والتي تقحم الأسرى في المناكفات الداخلية، ومحاولة جهة معينة السيطرة على كل مؤسسات السلطة وغيرها.

كما لم تعد قضية الأسرى تشكل حالة إجماعٍ وطنيّ كما كانت في السابق، يتّضح هذا في جهازيْن غير متعاونيْن: الأول في الضفة والآخر في غزة، وكلاهما تعبيرٌ عن تداعيات الانقسام المشين الذي يتحمل مسؤوليته الطرفان الحمساوي والفتحاوي؛ فكلٌ يغني على ليلاه، و"الأسرى يضيعون بين الأرجل" كما يقول المثل. فأيّ دعوةٍ لحراكٍ أو اشتباكٍ في الضفة نصرةً للأسرى صارت تفسر على أنها استهدافٌ لمقام الرئيس، وأيُّ حراكٍ في غزة بات يُستخدم لكيل الاتهامات وتكريس الانقسام.

إن الصراعات الداخلية سواء بين حركتيْ فتح وحماس أو بين قوى فتحاوية فيما بينها، أدّت إلى إحداث متغيرات بُنيوية هائلة في مؤسسات الأسرى الرسمية، وما تبعها من متغيرات طرأت على المؤسسات من حيث صلاحيات ووظائفها ووضعيتها القانونية والتنظيمية، ناهيك عن التدخل الخارجي والذى أدى إلى تحويل وزارة الأسرى من مسمى وزارة إلى هيئة.

إن الضغوط الخارجية أدت إلى تغيّر مسمى "وزارة" الأسرى، أمّا الصراعات الداخلية بين قوى فتحاوية فيما بينها أدت إلى إقالة وزير الأسرى، عيسى قراقع، الذي يكنّ له عموم الأسرى الاحترام والتقدير، ثم توسع الأمر لمحاولة السيطرة على نادي الأسير، مرةً بالضغط لتستحوذ على الرئاسة بالنادي، ومرة أخرى بقطع مخصصاته، وكان من أبشع المتغيرات الأخيرة إقحام الأسرى في صراع سياسي بين قبيلتيْ فتح وحماس، عبر وقف مخصصات أسرى غزة من حماس والجهاد والشعبية كجزء من العقوبات التي تفرضها رام الله على شعبنا في القطاع، ومن الغرابة أن يترافق ذلك مع الدعوات الأمريكية والإسرائيلية بوقف مخصصات الأسرى كجزءٍ من مخطط شامل لإسقاط الشرعية عن المقاومة.

لقد قدم الأسرى قبل سنواتٍ وثيقةَ الوفاق الوطني لرأب الصدع الفلسطيني، وكان وما زال لدى الأسرى الإمكانيات لاستنهاض أوضاعهم والمساهمة في التوصل إلى توافق وطني يعيد اللُحمة بين أبناء شعبنا، لكن كل ذلك شريطة عدم زج الأسرى في المناكفات والصراعات السياسية القائمة وجعل ملف الأسرى بمنأى عن الخلافات باعتباره القاسم المشترك بين جميع الأطراف.

إدارة مصلحة السجون تدرك طبيعة الخلافات القائمة وتسعى إلى تكريسها واستغلالها، تمامًا كما جرى في "قمعة عوفر" والتي لم تأخذ الحيز المفترض في الشارع، وعلى هذا الأساس وفي حال استمرار تراجع الشارع في دعم الأسرى وإسنادهم في ظل الخلافات الداخلية، كل هذا يمهد الطريق لكي يكون الأسرى لقمة سائغة لسجان استخباراته.

ومن أجل إيقاف خيبة الأمل التي يمرّ بها الأسرى، لا بدّ من إعادة ترتيب أوراقنا حول الأسرى ضمن استراتيجية وطنية شاملة، تضمن توظيف الفضاء السياسي المُوحد لحماية الأسرى، وخلق وعي نضالي مبني على أساس حماية حقنا في مقاومة الاحتلال بكافة الطرق والوسائل المُمكنة.