عصر الانتهاز السياسي

حجم الخط

 

تضحيات شعبنا الفلسطيني ممتدة إلى ما يزيدة عن قرن زمني, قدم خلاله الغالي والنفيس في سبيل مشروعه الوطني وحقوقه التي لا تسقط بالتقادم. بالمقابل, فإن حجم الإنجازات التي حققها حتى اللحظة, لا تتماهى وحجم التضحيات التي بذلها ولا يزال. وفي السؤال عن مصدر الخلل في هذه المعادلة, تجد أن الشعب مطلق العطاء دوما في سبيل قضيته. بالتالي فإن الخلل الرئيس يكمن في البنية القيادية لشعبنا في مراحل نضاله المختلفة. فمن جهة, تقف القيادة عاجزة عن تنظيم هذه النضالات وتأطيرها في كمّ تراكمي من الإنجازات, التي تعمل كقوة دفع للنضالات من جهة, وتأطيرها لخدمة شعار سياسي تكتيكي من جهة أخرى, يصب في مجرى الهدف الاستراتيجي, الذي انطلقت من أجله الثورة, بكل ألوان طيفها السياسي والفصائلي. بالطبع, فإن مطلق ثورة يصاحب مسيرتها أخطاء ومخطئون وانتهازيون, يركبون موجات النضالات الجماهيرية, تحقيقا لمصالحهم الشخصية, غير أن من الصحيح القول أيضا, إن الحالة الثورية المفترضة في المجرى النضالي, يتوجب أن تكون قادرة على إصلاح الأخطاء أولا بأول, واجتثاثها من الجذور, لتصويب مسار الثورة من جهة, ولقص جذور الانتهازيين من ذوي المصالح الشخصية من جهة أخرى, هؤلاء من الضيقي الأفق, الذين هم ليسوا أكثر من كوابح لتقدّم مسيرة الثورة. المفهوم الآنف الذكر بتفصيلاته وتطبيقاته العملية يشكل مفترق طرق بين نجاح حركة التحرر الوطني التي تقودها الثورة, وبين التراجع التدريجي, وصولا إلى الانحسار على طريق السقوط.

من الطبيعي والحالة هذه, وبدلا من المزيد من التمسك بالهدف الاستراتيجي للثورة, ولأهداف ذاتية عنوانها: العجز وافتقاد القيادة للقدرة على تحقيق المزيد من الإنجازات في النضال الثوري, بل الأدهى من ذلك, افتقاد القدرة حتى على المحافظة على الثورة بحالتها الراهنة! (لأن من الطبيعي أن تمر الثورات في خطوط متعرجة ومنحنيات طبيعية, فلا ثورة تبقى في خط مستقيم صاعد!), من الطبيعي وتجنبا للإحراج أمام الجماهير المغلوب على أمرها, أن تعمل القيادة على تصغير, تقزيم, ومسخ الهدف الاستراتيجي وتحويله إلى أهداف أقلّ منه بكثير, بما يعنيه ذلك من مساومة ليست مشروعة وليست عادلة على الحقوق الأساسية لجماهير الشعب. هنا تقع القيادة في خطأ استراتيجي قاتل ومدمّر وينم عن الجهل بكل معانيه! ذلك أن الثورة هي أولا وأخيرا تعبّر عن صراع الإرادات بين الثوريين والمستعمرين المحتلين للأرض من المغتصبين الأعداء. فبمجرد أن يقدم الثوري تنازلا, سيفهم العدو أنه أصاب خصمه في مقتلْ, وسيلجأ والحالة هذه إلى المزيد من التشدد ومطالبة الخصم بالمزيد من التنازلات, وخصوصا إن افتقد الأخير إلى السلاح الأهم في المواجهة الثورية للعدو, بتحويل مشروع احتلاله إلى مشروع خاسر بالمعنيين الديموغرافي البشري, والاقتصادي, وبالمعنى الأخلاقي أيضا, من خلال الكفاح الشعبي المسلّح, الدائم والمستديم والمؤثر بقوة على العدو.

كثيرة هي الأسباب التي تؤدي إلى تقزيم الهدف, وتقزيم الثورة, وتراجعها عن هدفها الاستراتيجي, والمحافظة على الشكل الهزيل الأضعف من بقاياها, أول هذه العوامل: الانتهازية, كسياسة وممارسة واعية للاستفادة الأنانية من الظروف، مع الاهتمام الضئيل بالمبادئ أو العواقب التي ستعود على الآخرين. وأفعال الشخص الانتهازي هي أفعال نفعية تحركها بشكل أساسي دوافع المصلحة الشخصية. الانتهازية هي المرض الأخطر الذي يسهم في أفول الظاهرة التي يتغلغل فيها, (وفي حالتنا, مرحلتنا الثورية الراهنة). بالتالي فهي العامل الأبرز المتوجب خشيته, أيّا كانت الأشكال التي تبدو فيها الظاهرة, وأيا كان الشكل الذي تتجلى فيه. الانتهازية كذلك, تتناقض مع الجوانب الأخلاقية والقِيم والمبادئ, وترتبط بالنفاق والمهادنة والشعور غير الحقيقي في ذهنية الشخص الانتهازي.

ومع انحسار القيم والمبادئ بدأ اتساع هذه الظاهرة التي أصبح الإنسان يواجهها كثيرا في حياته. الانتهازية كانت منذ فجر التاريخ, وبروزها جاء مع تقسيم العمل. نطبق مصطلح الانتهازية على البشر والكائنات الحية والمؤسسات والأساليب والسلوكيات والتوجهات. تمثل الانتهازية أو “لسلوك الانتهازي” مفهوما مهما في العدد من المجالات بما فيها الثورة, كما الأخلاقيات وعلم النفس، وعلم الاجتماع والسياسة بالطبع. ترتبط الانتهازية بتعبير آخر هو الوصولية, وتدل على سلوك شخصية الإنسان الذي يكرس كل نشاطه الاجتماعي لهدف الترقي في المنصب أو الوظيفة “حب الرفعة” والذي لا يكون على استعداد لتنفيذ واجباته. وهي شكل من الأنانية في الميدان المعني. والوصوليون هم الذين يبيحون لأنفسهم استخدام جميع الوسائل لإعلاء أعلى المراكز وإن كان على حساب الآخرين.

الانتهازيون هم أصحاب الأقنعة من أولئك الذين تتعدد وجوههم, يتربصون بالبعض من الثوريين الأنقياء المخلصين الصريحين والواضحين من الذين لا يخشون في الحق لومة لائم! يتربصون بهم كفريسة لهم وينقضون عليها مرّة تلو أخرى في أسلوب مبتذل ونذل ووقح! والأخطر أن المسؤولين عنهم لا يتنبهون استهدافاتهم للشخص/ الأشخاص المعني/ المعنيين, ولا يوقفونهم عند حدّهم. الانتهازيون يمتازون بالتملق والتودد والإفراط في المديح والإطراء والمجاملة حتى تظن الانتهازي بأنه الشمعة التي تحترق من أجل إسعاد الآخرين. للأسف تنامت هذه الظاهرة مؤخرا, وفرضت نفسها على قضايا عديدة, حتى في ثورتنا المعاصرة, وإن لم نتنبه لها, ونقطع دابرها كظاهرة, كما أصحابها الظاهرين والخفيين, المختبئين وراء الجمل الثورية الجميلة, السامّة, لكنها المغلفة بطبقة رقيقة من مواد الحلويات الشهيّة. نعم, للأسف, نحن في عصر الانتهاز السياسي.