الأوضاع في فنزويلا.. من الاحتقان إلى التنفيس

حجم الخط

 

بعد نحو أسبوعين على إعلان رئيس الجمعية الوطنية ذات الأغلبية اليمينية "خاون غوايدو"، تنصيب نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد، يمكن تلخيص المشهد السياسي بأنه لا توجد تغيرات أو تطورات دراماتيكية سريعة بل يمكن الحديث عن "جمود في سياسات المعارضة" وداعميها وخاصة إدارة ترامب، وديناميكية متنامية للحكومة الشرعية بقيادة مادورو.

استطاعت الحكومة أن تمتص الموجة الأولى من الهجوم الإعلامي والسياسي والدبلوماسي بحنكة وهدوء مما فاجأ الطرف الآخر، والسبب أن الحكومة ومعها الحزب الاشتراكي الموحد وحلفاؤه لم يفاجئوا بما أقدمت عليه المعارضة، التي هي لسان حال الإدارة الأمريكية.

وأعلن نائب رئيس الحزب الاشتراكي الموحد الفنزويلي "ديوس دادو كابيو" أنه وقيادي آخر التقيا مع "غوايدو" سراً، قبل 23 كانون الثاني الماضي، عندما عُين رئيساً للجمعية الوطنية، وبحثا معه عدة مواضيع منها المخطط الأمريكي الذي يهدف إلى تصعيد الأزمة بعدم اعترافه بشرعية الرئيس "ماذورا" والسيناريوهات المطروحة من قبل إدارة "ترامب" .

"غوايدو" أبلغهم أنه يتعرض لضغوطات جمة ليعلن نفسه رئيساً مؤقتاً ولكنه لن يقبل وسيستمر في الرفض.

يقول مادورو: "عندما قُدم لي التقرير عن هذا اللقاء قلت، أنا لا أصدقه، إنه خائن وسيمارس ما يمليه عليه سيده في البيت الأبيض"، وهذا ما حدث فعلاً.

راهن الطرف الإمبريالي الأمريكي على عنصر "المفاجأة "، وأنّ الاعتراف السريع من قبلهم والأنظمة التابعة لهم في منظمة الدول الأمريكية، بـ "غوايدو"، كرئيس انتقالي للبلاد، وتزامن ذلك مع حملة إعلامية شرسة تضع الخيار العسكري على الطاولة مما سيربك حكومة "مادورو" والمؤسسة العسكرية وسيؤدي إلى انشقاقات يترافق مع تمرد شعبي واسع يؤدي للإطاحة بالحكومة قبل أن يتدخل أي من حلفاؤها لنجدتها أو الدفاع عنها .

اختير يو 23 كانون الثاني الماضي، لأنّه يوم وطني له رمزيه ودلالات معنوية وقومية للشعب الفنزويلي الذي بنضالات وتضحيات كبيرة وخاصة من قبل اليسار، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي الفنزويلي، استطاع أن يطيح بالديكتاتورية الدموية للرئيس "بيرس هيمينز"، الذي كانت تدعمه الولايات المتحدة بشكل مطلق، عام 1958. ومنذ ذلك التاريخ تخرج الجماهير بعشرات الآلاف لإحياء هذه الذكرى، وخاصة  المؤيدة لليسار والقوى التقدمية، وقد أرادت الإدارة الأمريكية أن يكون هذا اليوم أيضاً يوم الإطاحة بـ "ديكتاتورية مادورو" كما يزعمون .

المعارضة الفنزويلية التي تضم أقصى اليمين ويمين الوسط واشتراكيين ديموقراطيين، وبسبب التباينات والتعارضات بين مكوناتها، توصلت لاتفاق فيما بينها بعد أن حصلت على أغلبية برلمانية في العام 2015، أن يترأس الجمعية الوطنية أحد الأحزاب المكونة للتحالف كل عامم، وفي بداية العام الثالث البرلماني، يأتي دور حزب "الإرادة الشعبية" اليميني الفاشي الموالي للصهيونية والإمبريالية.

زعيم الحزب "ليوبولدو لووبس"، يقبع في السجن بسبب تحريضه ومشاركته في أعمال العنف والتخريب التي راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات الجرحى في محاولة فاشلة للإطاحة بالرئيس مادورو بعد فوزه بأول انتخابات أُجريت بعد رحيل الرئيس "شافيز".

وغوايدو أحد البرلمانيين التابعين لهذا الحزب وانُتخب نائباً عن ولاية بارغسا، تخرج من جامعة "اندريس بيوو"، هندسة معلوماتية ولم يكن معروفًا، لدرجة أن الفنزويلي العادي لا يلفظ اسمه جيدًا.

السيناريوهات المطروحة

تتصرف الإدارة الأمريكية وكأنها هي المالك لأمريكا اللاتينية والكاريبي، وتعتبرهما بمثابة حديقتها الخلفية، وتضع كافة الخيارات على الطاولة، وحكومة فنزويلا وقواتها المسلحة هما أيضاً يستعدان لكافة الاحتمالات المعلنة والمضمرة .

إن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل الخيار العسكري مطروح جدياً وللتنفيذ الفوري من قبل إدارة "ترامب" وعملائها في القارة؟

نستطيع القول بثقة أن القراءة الهادئة والموضوعية للوضع في أمريكا اللاتينية والكاريبي، وفي كل من فنزويلا والولايات المتحدة، لا تشير إلى غزو مسلح من الخارج بقيادة الولايات المتحدة أو بدعم مباشر من قبلها، لأسباب أهمها:

1ـ لم يتم تسخين أو تهيئة الوضع الشعبي الأمريكي ( الرأي العام الأمريكي ) لغزو محتمل.

2 ـ لا يوجد إجماع رسمي أمريكي على عمل عسكري مباشر بين الجمهوريين والديموقراطيين، بل حتى الآن هنالك تباين واضح بين الكونغرس والبنتاغون والخارجية.

3 ـ فشل الولايات المتحدة في مجلس الأمن في تأمين اعتراف " بالرئيس " المؤقت الذي عُين من قبل "ترامب"، الذي سبقه فشل أمريكي آخر في منظمة الدول الأمريكية من قبول " السفير " الذي أرسله "هوان ويذوو" لتعيينه بدل السفير الشرعي ( 16 صوت لصالحه و18 صوت ضده ) رغم أن الأغلبية في هذه المنظمة وافقت على تجميد فنزويلا بعد أن أقسم "ماذورو" اليمين الدستوري.

4 ـ الدول المحيطة بفنزويلا تمر بأوضاع اقتصادية واجتماعية لا تُحسد عليها ، كولومبيا مثلاً رغم المساعدات المالية والاقتصادية والعسكرية التي تقدمها الإدارات الأمريكية المتعاقبة مقابل إقامتها لأكثر من سبع قواعد عسكرية على أراضيها، إلا أنها لا تستطيع أن تتحمل تبعات وعواقب غزو لفنزويلا من أراضيها . فرغم أن حكومتها الرسمية وقعت اتفاقية سلام مع الثوار ( فارك ) إلا أن الاغتيالات والملاحقات لقياديين عسكريين سابقين في فارك يضع هذه الاتفاقيات في مهب الريح. ففي حال نزاع مسلح مع فنزويلا ممكن لثوار فارك أن يعودوا للسلاح وتزعزع الوضع الداخلي، بل ممكن أن تشكل تهديد جدي للحكومة. أما البرازيل رغم حدودها الطويلة مع فنزويلا إلا أنها غير مهيئة لحرب مع فنزويلا بسبب أزمتها الاقتصادية من جهة وطموحها أن تلعب دور" قيادي " في القارة.

5 ـ وقوف أهم حلفاء الولايات المتحدة، مجموعة ليما، ضد الخيار العسكري ( على الأقل في المدى القصير) والدعوة لحل سلمي للأزمة رغم اعترافهم بـ"هوان وايذوو" .

لكل هذه العوامل بالإضافة للعامل الأهم وهو تماسك الجبهة الداخلية الفنزويلية سياسياً وعسكرياً وميول ميزان القوى المحلي لصالح الحكومة الشرعية وحلفائها، سيلعب الوقت لصالح الحكومة الشرعية ورئيسها "نيكولاس ماذور" .

أوروبا ليس موحدة وتتخبط، حيث بعد أن رفضت حكومة فنزويلا التهديد الأوروبي واعتبرته سيئ ومشين، شكلّت الأخيرة ما أسمته مجموعة الاتصال للتنسيق مع الأوروغواي والمكسيك لعقد اجتماع في الأوروغواي للحوار بين الطرفين الفنزويليين وإيجاد مخرج وحل سلمي للأزمة حيث رحبت حكومة فنزويلا بالاقتراح ورفضته المعارضة بتعليمات من واشنطن التي تعتقد أن هكذا حوار يسحب البساط من تحت قدميها، رغم ذلك فإن المعنيين يصرون على تحقيقه حيث انضمت لهم بوليفيا الحليف القوي لفنزويلا .

هنالك أوضاع شعبية وجماهيرية في القارة تصب في صالح الشرعية في فنزويلا مما يجعل من تكاملها مع حلفاء فنزويلا على الصعيد الدولي وخاصة روسيا والصين و إيران وتماسك القوات المسلحة الفنزويلية التي أعلنت بشكل قاطع وبكل أقسامها ولائها للدستور واستعدادها للدفاع عن الشرعية، أن تفرض على الإدارة الأمريكية التراجع واللجوء لتسوية تحفظ ماء وجهها .

إن شهية الاحتكارات الأمريكية للسيطرة على مقدرات فنزويلا وتعجلها في ذلك بعد انكماش النفوذ الأمريكي في منطقتنا دفعها للقراءة الخاطئة لميزان القوى المحلي، مما جعلها تتسرع في الكشف عن خططها ونواياها، التي كانت تتم من تحت الطاولة مما أمن لها هامش أكثر حرية في الحركة والمناورة، الشيء الذي أعطى مصداقية للحكومة الفنزويلية في تعبئتها وتحريضها على تآمر البيت الأبيض وحربه الاقتصادية التي حتى وقت قريب كانت محل شك من بعض القطاعات الشعبية.