المشروع الصهيوني في حالة الاشتباك

حجم الخط

في مؤتمر بازل بسويسرا الذي انعقد برئاسة اليهودي النمساوي تيودور هرتزل تم الحصول على موافقة الحركة الصهيونية العالمية على اختيار فلسطين من بين مناطق عدة لتكون وطنًا قوميًا لليهود، وبعد الحرب العالمية الأولى رسمت اتفاقية سايكس بيكو حدود فلسطين التاريخية لممارسة حدود إبادة وتشريد، وليس حدود استقلال وطني كما هو الحال بالنسبة لسوريا ولبنان والأردن.

منذ ذلك الوقت والاشتباك قائم بين الفلسطينيين والمشروع الصهيوني العنصري، الذي يعمل في كل لحظة على شحذ سكين الاستيطان لتحقيق أهدافه التوسعية التي تتعدى المساحة الجغرافية لفلسطين إلى أبعد من ذلك كما تشير إليها العبارة المكتوبة على بوابة الكنيست الإسرائيلي.

بعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948، بدعم من حكومات الانتداب البريطاني، كجزء من مخطط استعماري كبير يستهدف تشويه هوية المنطقة العربية؛ فخلال الحقبة التاريخية وما جرى فيها من أحداث ومتغيرات لصالح هذا الكيان، حيث انهار مشروع الوحدة المصرية السورية، وحدثت هزيمة يونيو حزيران 1967، وكانت هزيمة قاسية للكرامة العربية. أما الثورة الفلسطينية التي كانت بمثابة الرد السريع على تلك الهزيمة، فقد فقدت قاعدتها الرئيسية في الأردن، ثم في لبنان، وتوزع مقاتلوها في بعض دول الشتات العربي مما دفعها لانتهاج طريق التسوية التي بدأته مصر السادات بالتوصل إلى اتفاقية كامب ديفيد، وقد أفضى ذلك الطريق إلى توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير وحكومة رابين، مما أربك المشروع الوطني من خلال تناول أفكار سياسية مختلفة لحل "المشكلة" الفلسطينية، كان من بينها مشروع حل الدولتين الذي وصل إلى طريق مسدود؛ بسبب تعنت الكيان الصهيوني وعدم استعداده لدفع استحقاقات السلام العادل مدعوم بالموقف الأمريكي الحالي، الذي يسعى لتمرير ما يسمى بصفقة القرن.

هذه الوقائع السياسية أصبحت في ذمة التاريخ، لكن ما يستدعي التأكيد عليه الآن هو أن المشروع الصهيوني الذي أقرته الحركة الصهيونية العالمية في مؤتمر بازل بسويسرا، ورغم النجاحات التي حققها، وقد وصلت إلى درجة متقدمة الآن بميل أطراف عديدة في النظام السياسي العربي الرسمي للتطبيع مع الكيان الصهيوني، في وقت لم تتحقق فيه "التسوية السياسية" الحقيقية للصراع، اعتمادًا على فكرة أن السلطة الوطنية الفلسطينية نفسها قائمة على أساس التطبيع؛ إلا أن ذلك لا يلغي القول بأن ليس هناك على المدى البعيد مستقبلًا للكيان الصهيوني في بلادنا فلسطين، ذلك أنه مهما امتلك هذا الكيان الغاصب والدخيل من قوة عسكرية، بسبب تحالفه مع الولايات المتحدة الاأمريكية، فإن ذلك لن يوفر له الأمان والاستقرار في العيش والبقاء على الأرض التي أقيم عليها بالقوة المسلحة، تحت غطاء من الحجج والذرائع الدينية التوراتية والتلمودية الخرافية؛ لأن المتغيرات السياسية التي تجري في المنطقة وإن بدت في ظاهرها الآن تحدث لصالح إسرائيلن؛ بسبب الصراع الدموي الذي تعيشه بعض دول المنطقة على السلطة السياسية، وهو صراع لم يعد له أهداف وطنية أو قومية، وحتى خارج نطاق الدعوة لتعميم الديمقراطية، وقد كان مردوده من الناحية السياسية على القضية الفلسطينية، التهميش والتراجع من حيث الأولوية، وذلك يعود لاهتمام الشعوب بالقضايا المعيشية المطلبية، وأولويتها على القضايا السياسية.

إن المتغيرات السياسية هذه لن تبقى على حالها من صراعات وحروب في إطار الفوضى السياسية والأمنية بين دول إقليمية ودولية بالوكالة، وسوف تفرز في المستقبل نقيضها بحكم قانون التناقض الذي يحكم تطور الأشياء المادية في الكون. فسوف يأتي اليوم الذي تنتصر به إرادة الشعوب العربية، وينهض بذلك المشروع القومي الديموقراطي من جديد، ويعود الصراع في المنطقة إلى جذوره الحقيقية، باعتباره صراع بين الأمة العربية بقواها التحررية الوطنية الديمقراطية، وبين الكيان الصهيوني العنصري وقوى الغرب الرأسمالية الإمبريالية الطامعة في نهب ثروات ومقدرات المنطقة؛ فالتناقض بين هذين المعسكرين هو التناقض الرئيسي الذي يبقى قائمًا في المنطقة، وما غيره من صراعات هو صراع لاستمرار التخلف والتبعية، وإعادة إنتاج مزيد من الأنظمة الاستبدادية العربية التي تمارس الظلم السياسي والاجتماعي.

لقد فشل الكيان الصهيوني حتى الآن رغم الأعوام السبعين التي مضت على تأسيسية، ورغم اتفاقيات الصلح المنفردة الذي توصل إليها مع مصر و الأردن ومنظمة التحرير في أن يضفي على نفسه اعترافًا شرعيًا من شعوب المنطقة؛ لأن الشعوب العربية ليست كالأنظمة السياسية، فلم تُجدِ إجراءات التطبيع مع الكيان التي قامت بها دول عربية عديدة، وكذلك لم تستطع آراء ومقالات ومقابلات بعض المثقفين، والنخب السياسية العربية، وغالبيتهم من دول الخليج العربي، ممن يحملون في عقليتهم السياسية والفكرية ثقافة رجعية قبلية متخلفة، تقوم على الانبهار بحضارة الغرب البرجوازية التي يتصف بها الكيان الصهيوني باعتباره امتدادًا لها، من تغيير نظرة الشعوب العربية الملتزمة بموقف الرفض لهذا الكيان الغاصب والدخيل، وعلى مستقبل استمراره قائمًا في المنطقة.