جولة صراع بحسابات سياسية وأمنية

حجم الخط

كالعادة بعد كل تصعيد إسرائيلي يشهده القطاع ويخلق حالة من التوتر والترقب بين جماهيره المثقلة بالهم المعيشي، وذلك كرد فعل على إطلاق صاروخ على مستوطنات ما يسمى بغلاف غزة، أو إحدى "المدن الإسرائيلية" يتدخل الدور الأمني المصري لوقفه بهدف إنجاز اتفاقية تهدئة؛ وبذلك تتحول عمليات المقاومة من إطارها الوطني الاستراتيجي المشروع في مواجهة سياسة الاحتلال الصهيوني الفاش، إلى تحقيق هدف سياسي مصلحي تحت مسمى التهدئة. أي تجميد المقاومة بدلًا من العمل الدائم على تفعيلها، وهي حالة تتناقض تمامًا مع مشروع المقاومة الذي هو حق كفلته القوانين الدولية للشعوب التي ترزح تحت سيطرة وحكم الاحتلال.

        إن كل جولة من الصراع يحقق فيه العدو مطلبه الأمني هي خروج عن قانون المقاومة، ومطلب العدو في قطاع غزة الآن يتمحور حول التوصل إلى اتفاق تهدئة والمساعي المصرية تدور منذ مدة بين الطرفين على تحقيق ذلك؛ ولكن عدم التوصل حتى الآن إلى اتفاقية دائمة يعود بشكل أساسي لطبيعة الشروط الإسرائيلية القاسية التي تفرضها حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، والتي هي بحاجة إلى تحقيقها كدعاية انتخابية لإعادة انتخاب نتنياهو مرة أخرى.              تأتي الجولة الأخيرة من الصراع هذه الأيام بحسابات سياسية وأمنية مدروسة؛ فالمقاومة ممثله بفصيلها الأكبر حركة حماس التي تحكم القطاع، بحاجة إلى التفاف جماهيري حولها بعد أن تراجعت سياستها القائمة أصلًا على خيار المقاومة في مواجهة خيار المفاوضات، وذلك بسبب أسلوب القمع الذي مارسته أجهزتها الأمنية مؤخرًا على الجماهير الشعبية التي خرجت في حراك شعبي مطلبي سلمي شعاره (بدنا نعيش)، استمر أيامًا وما زال قابلًا للتجدد بسبب ظاهرة الغلاء وسوء الأحوال الاقتصادية عامة، حيث من المعروف من تجارب الحركات الاحتجاجية في دول العالم الثالث أن الجماهير التي لا يستطيع النظام السياسي تلبية احتياجاتها المجتمعية المعيشية تصبح غير مستعدة لمواصلة الولاء والطاعة له.

أما الاحتلال الإسرائيلي ممثلًا بحكومة نتنياهو فهي بحاجة إلى تحقيق إنجاز سياسي وأمني في قطاع غزة، للرد على خصوم رئيس وزرائها الذين يتهمونه بالفساد والضعف أمام حالة الاستنزاف التي تقودها المقاومة على شرقي القطاع، والمعروفة بمسيرات العودة الأسبوعية التي مضى عليها اليوم عامًا كاملًا سقط بها مئات من الشهداء وآلاف من الجرحى، كما وجعلت الحياة في مستوطنات ما يسمى بغلاف غزة في حالة رعب دائم، وكثيرًا ما طالب هؤلاء الخصوم ومنهم وزير الدفاع السابق ليبرمان الذي استقال على خلفية تهمة التهاون المزعوم في مواجهة هذه المسيرات السلمية باجتياح القطاع لضرب الآلة العسكرية للمقاومة، وبعد فشل العملية الاستخبارتية شرقي خان يونس قبل أشهر.

        حقيقة أن كلا الطرفين يعانيان من أزمة داخلية وهما بحاجة إلى تصديرها إلى الخارج: حكومة نتنياهو الائتلافية اليمينية التي تخوض الانتخابات البرلمانية في مواجهة المعسكر الصهيوني الذي يسجل على نتنياهو تهم الفساد التي تلاحقه هو وأسرته، وقد لا تجد هذه الحكومة حكومة المستوطنين أفضل من شخص نتنياهو كمرشح لإعادة انتخابه للاستمرار في مواصلة برنامجها الاستيطاني، والتي تحقق في عهده الاعتراف الأمريكي ب القدس عاصمة موحدة للكيان الصهيوني وتم نقل السفارة الأمريكية اليها وكذلك الإنجاز السياسي الذي تم خلال زيارته لواشنطن وهو الاعتراف الأمريكي بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري. أما حركة حماس التي تحكم قطاع غزة منذ الانقسام السياسي الذي مضى عليه الآن ثلاثة عشر عامًا تقريبًا وفي عهدها ازدادت حالة البؤس الاجتماعي، ووصلت مساعي المصالحة إلى مرحلة من الجمود، حيث لم يستطع الدور المصري التقدم بها؛ الأمر الذي جعله يستعيض عن ذلك بتفعيل هذا الدور على مستوى تحقيق التهدئة مع الكيان.

        إن الوضع الحالي من الصراع بين المقاومة والكيان فيه ما يغري بعدم الوصول إلى انفراج، وهو مرشح لمزيد من جولات الصراع، وهو ما يفسر وجود حالة حشود عسكرية إسرائيلية على حدود قطاع غزة استعدادًا لما يحدث من مسيرات حاشدة على طول السلك الشائك بين القطاع والكيان بمناسبة ذكرى يوم الأرض، وإذا ما أعيد انتخاب نتنياهو الطامح للتغلب على خصومة السياسيين أو جاءت حكومة جديدة، فكل واحد من الطرفين معني جدًا بتسجيل انتصار حاسم على المقاومة عن طريق الموافقة على الشروط السياسية والأمنية، وأهمها وقف مسيرات العودة، وحراك الارباك الليلي، والحراك البحري، ووقف إرسال البالونات الحارقة، وحماس لا تستطيع أن تتحول إلى مجرد قوة سياسية منزوعة من السلاح مقابل فك الحصار، أو التخفيف منه كما تتسرب الأنباء على ضوء المساعي المصرية التي تبذل لتحقيق اتفاق تهدئة دائمة. وهذا كله يدلل على أن جولة الصراع الحالية ما زالت مفتوحة، وفي كل الأحوال المعاناة الشديدة في القطاع تبقى في انتظار تطور سياسي جديد على صعيد القضية الفلسطينية كتحقيق المصالحة وإنهاء الانقسام، أو فتح الطريق بعد الجمود أمام تسوية سياسية عادلة للصراع.