فنزويلا: تحديات البناء والإصلاح

حجم الخط

منذ اليوم الأول لانتصار البوليفارين، بقيادة الرئيس الراحل هوغو تشافيز، وُضعت فنزويلا على قائمة الأولويات والاهتمامات السياسية والإيديولوجية والأمنية للإدارات المتعاقبة في الولايات الأمريكية المتحدة، منذ جورج بوش الابن حتى الآن، بسبب طرح قائد الثوره البوليفاري برنامج "الإصلاح والتطوير الذي يهدف لجعل فنزويلا قوة محلية وعالمية"، وذلك من خلال "فك ارتباطها بالاقتصاد الرأسمالي الإمبريالي وخاصة اقتصاد الولايات المتحدة، وتحقيق السيادة التامة والفعلية على ثرواتها وأراضيها وبناء نظام بديل عن ما هو قائم، يحقق التوزيع العادل للثروة ويعالج مشكلة الفقر الحادة (في تلك الفترة كان أكثر من 28 % تحت خط الفقر وأكثر من 40% يعانون من الفقر) ويخلق فرص متكافئة للسكان في الإعداد والمشاركة والعمل".

إن مجرد التفكير، لأي كان، بالخروج من تحت المظلة والسيطرة الأمريكية، يكفي كي يضعه البيت الأبيض في خانة الأعداء الذين "يهددون المصالح الحيوية للولايات المتحدة وأمنها القومي، ويشكلون خطرًا على نظامها وديموقراطيتها"، وقد حاولت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وخاصة إدارة بيل كلينتون أن تحتوي الرئيس الراحل: هوغو تشافيز، ودفعه إلى التخلي عن برنامجه الفكري ـ السياسي ـ الاقتصادي وعن تحالفاته في القارة وخاصة مع كوبا، ولكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل، رغم أنها توجت بانقلاب عسكري فاشل في 11/ 2 / 2002، لم يستمر أكثر من 48 ساعة، بسبب إطاحة الضباط الوطنين الموالين للرئيس بالانقلابين والانضمام للملايين التي زحفت على القصر الرئاسي مطالبة بإعادة شافيز للسلطة . رغم فشل الانقلاب العسكري، إلا أن أعداء الوطن المحليين ـ الإقليمين والعالميين لم يستسلموا وأعلنوا الإضراب العام في شركة النفط الوطنية التي كانت تحت إدارة يمينية متطرفة وتابعة للإدارة الأمريكية، حيث تم ايقاف إنتاج النفط بالكامل وعطلت الأجهزة الإلكترونية والحواسيب وضخت فيها الفيروسات، في محاولة يائسة لدفع الحكومة إلى الاستسلام والرحيل، ولكن هذا لم يحدث حيث توجهت الجماهير إلى المنشآت النفطية للدفاع عنها، مما أجبر إداراتها المتآمر إلى الهرب والخروج من البلاد، مخلفة ورائها خراب شامل وخسارات اقتصادية ومالية فادحة قُدرت بأكثر من 35 ألف مليون دولار، ما زالت البلاد تعاني من إثارة وتدفع الثمن، ولكن الارتفاع الهائل في أسعار النفط الخام مكن الحكومة، رغم المأساة التي حلت بالبلاد، من تنفيذ العديد من البرامج الاجتماعية والتربوية والزراعية، وتجديد قدرات القوات المسلحة، ودفع الديون الخارجية بالكامل التي تركتها حكومات اليمين، وتقدر حوالي 40 ألف مليون دولار؛ مما جعل الإمبريالية تشدد من إجراءاتها ضد البلاد، حيث تم سحب الاستثمارات ورؤوس الأموال الأجنبية وخاصة الأمريكية كإجراءات عقابية، ولعرقلة وإفشال خطط الإصلاح والبناء، بالإضافة لعوامل داخلية أخرى لا تقل أهمية، منها عدم تبني الاشتراكية العلمية والارتهان للفهم الفكري الإصلاحي (البرجوازي الصغير) لبناء الاشتراكية.

لم تستطع حكومات الرئيس تشافيز المتعاقبة من إجراء التحولات الكافية في البناء التحتي للبلاد وفي النظام الإنتاجي، حيث بقيت البنية الاقتصادية ـ السياسية والإدارية القديمة كما هي تقريبًا، مُشَكلة عقبة وحائلًا أمام التحول والتجديد، بل فاقمت من الفساد واستغلال النفوذ والسلطة .

رحل قائد الثورة البوليفارية ومهندسها، في الخامس من آذار عام 2012، بعد ثلاثة عشر عامًا على استلامه للسلطة في 2/ 1 / 1999، حيث رحل مبكرًا دون أن يتمكن من إجراء التحولات المطلوبة، لبناء الاشتراكية، قضاها في مواجهة التحديات والمؤامرات على السيادة والاستقلال ووحدة الوطن الجغرافية، ولخص هذه المسائل في رسالته الأخيرة للشعب حيث قال: "إنني أترك لكم وطنًا كنا قد افتقدناه في عهد حكومات الجمهورية الرابعة اليمينية التابعة للإمبريالية" وطالب الشعب بالحفاظ عليه، لأنه بدون وطن وسيادة لن تكون هنالك لا اشتراكية ولا غيرها".

إن الغياب القسري والمفاجئ للرئيس المؤسس تشافيز وضع أتباعه أمام ظروف لا يحسدون عليها، فليس من السهل حقيقة خلافة العظماء أصحاب الفكرة والهدف والكاريزما المميزة،هذه الحقيقة تدركها جيدًا دوائر التخطيط والدعاية واتخاذ القرارات في الأنظمة الإمبريالية التي هي أصلًا وراء التخلص من تشافز (هنالك اعتقاد وأدلة على اغتياله بالسرطان)، بهدف ضرب وإفشال ليس فقط مشروعه الوطني الفنزويلي، بل طموحه القومي الوحدوي اللاتيني لما يشكله من "خطر" على مصالح ونفوذ الولايات المتحدة في القارة والعالم .

الرئيس تشافيز قبل رحيله بأيام أوصى وبإصرار أن ينتخب الشعب، عند الضرورة، نائبه الرفيق نيكولاس مادورو كرئيس للجمهورية، أي في حال عدم تمكنه من "ممارسة دوره كرئيس منتخب للبلاد " بعد رحيل تشافيز بشهر أجريت انتخابات رئاسية بتاريخ 12 / نيسان / 2013، وكان على المرشح الجديد، مادورو، أن يتبارى فيها من جديد مع مرشح اليمين، رادونسكي، الذي هزمه تشافيز في ثلاث جولات انتخابيه. في هذه الانتخابات أيضًا هزم أمام مادورو من جديد ولكن بفارق نسبي ضئيل جدًا، أقل من واحد ( 1 ) بالمئة، تم على أثرها اتهامه أنه "غير شرعي" وأنه "زوَر نتيجة الانتخابات وسرق النصر من رادونسكي"، وشُنت عليه حملة قاسية وظالمة من الإدارة الأمريكية وكل يمين القارة، كان هدفها تبهيت صورته أمام ناخبيه والشعب الفنزويلي، وأرفقت مع إجراءات اقتصادية ومالية تصاعدت تدريجيًا بهدف عرقلة التطور والبناء، وتوجت بأعمال شغب وعنف رجعي راح ضحيتها عشرات القتلى والجرحى بهدف اسقاطه . ترافقت هذه الأحداث مع الهبوط الحاد في أسعار النفط الخام، المصدر الرئيس للدخل وللعملات الأجنبية وخاصة الدولار الأمريكي، ليصب البنزين على نار الأزمهة التي أخذت بالتعمق والاستفحال منذ استلام مادورو للحكم .

في هذه الظروف الضاغطه دعا الرئيس مادورو لحوار وطني، لبى اليمين الدعوة، رغم التباين الواضح بين صفوفه، وذهب إلى "ميرا فلورس" (مقر الحكومة)، في ظل موجة من الشغب والعنف والإرهاب اليميني غير المسبوقة والمدعومة إمبرياليًا، تم على أثرها اعتقال الرؤوس المدبرة والمحرضة وعلى رأسهم: ليوبولدو لوبس، رئيس حزب (الإرادة الشعبية) اليميني الفاشي، الحزب الأصغر والأقل عددًا في تحالف قوى اليمين، ولكنه يحظى بدعم مطلق من الإدارة الأمريكية منذ تأسيسه والذي ينتمي إليه رئيس الجمعيه الوطنيه، هوان غوايدو، والذي أعلن نفسه "رئيسا" مؤقتا للبلاد .

ذهب اليمين إلى "الاجتماع" ليس بهدف الحوار، بل لإيصال رسالة للحكومة وللرئيس مادورو مفادها، إنهم "هم الوحيدين المؤهلين والقادرين على حكم البلاد وإخراجها من أزماتها، وأن الاشتراكية التي فشلت في كل مكان لا يوجد لها حظًا أفضل في فنزويلا، وطالبوا بتشكيل لجان مشتركة لوضع "الحلول" للمشاكل التي تعاني منها البلاد، أي إشراكهم في الحكم، ولكن حكومة الرئيس مادورو رفضت شروطهم ومطالبهم التي على أثرها صعّد اليمين من أعمال الشغب والعنف التي كلفت البلاد مليارات الدولارات؛ بسبب توقف العمل والقيام بأعمال التخريب الواسعة لمدة ثلاثة أشهر تقريبًا .

أنهى الرئيس مادورو فترة حكمه الأولى تحت ضغط الأزمة بسبب تراجع الإنتاج في المجالين الزراعي والتصنيعي، وتفشي الفساد في كافة أنحاء المجتمع بشكل لم يعهد له مثيل، وسوء الإدارة وعدم الكفاءة أو بسببهما، مما خلق تربة خصبة للجريمة المنظمة والفوضى الأمنية. هذه العوامل جعلت من الجبهة الداخلية ضعيفة وهشة، بحيث لم تتمكن من صد الحرب الاقتصادية والمالية ومقاومة الحصار شبه الكامل الذي تفرضه الولايات المتحدة وحلفائها في القارة والعالم على فنزويلا وحكومتها التقدميه . من الإجراءات التي قامت بها الحكومة للخروج من عنق الأزمة، تقديم موعد الانتخابات الرئاسية التي كان من المفترض أن تجري دستوريًا في ديسمبر من العام السابق، حيث أجريت في شهر أيار بمشاركة من قطاعات سياسية وشعبية من المعارضة، وفاز فيها الرئيس ـ المرشح ـ مادورو بنسبة 67 % تقريبًا، أما مرشح المعارضة الذي حصل على 33 % لم يعترف بالنتيجة وادعى أن المجلس الانتخابي زور النتيجة، رغم أنه عزا خسارته إلى الجزء المعارض الذي قاطع الانتخابات، وقال أن المقاطعة: "كانت لصالح مادورو وساعدته على الفوز" ! ! . الولايات المتحده ومعها أذنابها والمتعاونين في القارة لم يعترفوا بشرعية الانتخابات، ولكنهم لم يشنوا الحملة ضدها فورًا، بل أجلوا كل ذلك وقاموا بالتخطيط للمرحلة التي تلي استلام مادورو لمهامه الدستورية في المرحلة الثانية من حكمه، والتي أطلقوها في 23 يناير بإعلان رئيس الجمعيه الوطنية ذات الأغلبية اليمينية المعارضة السيد هوان غوايدو كرئيس انتقالي للبلاد، على اعتبار أن هنالك فراغ أو شغور في منصب الرئيس . إن التقدير الخاطئ لموازين القوى محليًا (وطنيًا) وإقليميًا وعالميًا، خلق وهم لدى الإدارة الأمريكية أن سقوط الحكم في فنزويلا سيتم خلال أيام، وتصرفوا على أساس ان "هوان غوايدو هو الرئيس الفعلي والمقرر في البلاد" . بناء على هذا الوهم منحت الولايات المتحدة رجلها في فنزويلا الامتيازات كافة، ومنحته الدعم المطلق ماليًا وسياسيًا وإعلاميًا ودبلوماسيًا، ولوحت بالحل العسكري في محاولة لتحقيق شق التحالف العسكري الشعبي، وشق القوات المسلحة التي أثبتت إنها أصلب مما كانوا يتصورون .

رغم هذا الفشل، لحد الآن، ما زالت الإدارة الأمريكية تمارس كل وسائل الضغط والتخريب، حيث قاموا بشن هجوم كهرومغناطيسي على محطات التوليد الكهربائي وخاصة المركزية "محطة غوري" في ولاية بوليفار التي تزود البلاد بأكثر من 70 % من التيار الكهربائي، مما أغرق البلاد في ظلام دامس لأكثر من 15 يومًا متتاليه، و30 يومًا متقطعة، في محاولة جديدة لتأليب الرأي العام الشعبي على الحكومة وإظهارها بالعاجزة والفاشلهة في توفير الحماية والرفاهية والاستقرار للشعب .

أما ما يقف حائلًا أمام الولايات المتحدة لتحقيق أهدافها هو تماسك الحكومة في فنزويلا وتعاملها مع الأزمة بهدوء وطول نفس باتجاهين الإداري ـ الاحتوائي والإنتاجي ـ البنائي، وتماسك المؤسسة العسكرية التي أثبتت أنها رغم ما يمكن أن يقال عن بعض الفساد فيها، وطنية وقومية تضع السيادة والاستقلال واحترام الدستور في المقدمة، وتفكك وعدم كفاءة المعارضة اليمينية المحلية رغم ما تتلقاه من دعم مطلق دوليًا وإقليميًا حتى أصبحت تكل عبئ على داعميها الذين يقومون بسرقة أموال الأمة الفنزويلية لتميل مخططاتهم بما فيها المعارضه نفسها . أما العوامل الخارجية؛ فتتمثل بعدم وجود إجماع في الإدارة والمؤسسات الأمريكية على عمل عسكري الآن، ووقوف الحليفين الروسي والصيني بحزم ضد التدخل العسكري في مجلس الأمن والمحافل الدولية كافة، وتوفير الاحتياجات الرئيسية، بما فيها العسكرية لتعزيز الصمود والمقاومة للحكومة والشعب، وكذلك تلكؤ حلفائها في القارة ورفضهم للغزو العسكري، وخاصة  مجموعة ليما التي تدرك خطورة انعكاسات الغزو لفنزويلا على مجتمعاتها التي تعيش هي أيضًا أزمات متفاوتة الحدة؛ لأن أي حرب على فنزويلا ستكون باهظة التكاليف، وغير مضمونة النتائج الفورية، حيث لا يستطيع أحد أن يقرر مدتها وتاريخ انتهائها .

الرئيس القائد المؤسس الراحل هوغو تشافيز كان يؤكد أن "سوط الثوره المضادة يفيد في تقويم الذات وتصحيح الأخطاء لتجديد الثورة ونفض الغبار عنها"، وعلى ما يبدو حكومة الرئيس مادورو تأخذ بهذا المبدأ الثوري كخيار وحيد وطريق آمن ليس فقط لتجاوز الأزمة والخطر، بل وللانتقال للهجوم المضاد؛ لأن مقتل الثورات يكمن في "بقائها في دائرة الدفاع"، وأي نظام إن لم يثبت جدارته وضرورة وجوده التاريخية ويرتقي إلى مستوى التحدي الوجودي ينهار ويتجاوزه التاريخ .