لا التاريخ يرحم ولا الشعب يغفر

حجم الخط

قبل نحو عام ونصف العام أعلن الرئيس الأمريكي ترامب، قرار اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة ل«إسرائيل». كان ذلك بمثابة رأس جبل الجليد العائم في خطة «إسرائيلية» أمريكية مكتملة الأركان لإسدال الستار على القضية الفلسطينية، بما هي جوهر الصراع العربي «الإسرائيلي».

هنا لم يكن الأمر بحاجة إلى التريث لمعرفة ما يُخطط له طرفا هذه الخطة، («إسرائيل» والولايات المتحدة)، وقد اتضح هدفهما أكثر فأكثر بعد خطوات نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، واستهداف حق عودة اللاجئين عبر الهجوم على وكالة «الأونروا»، وإغلاق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وعدم اعتبار الضفة أرضاً محتلة، ولا حتى متنازعاً عليها، ناهيك عن الاعتراف الأمريكي بسيادة «إسرائيل» على هضبة الجولان السورية المحتلة.

لذلك، وعليه، كان ينبغي على أطراف الحركة الوطنية المبادرة إلى إجراء مراجعة وطنية شاملة لمسيرة عقدين ويزيد من الالتباس والانقسام والتيه الوطني، بما يفضي إلى إعادة تعريف المشروع الوطني، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية العامة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، والتخلص مما لحِق بهذا المشروع وهذه المؤسسات من اختزالات، تمثلت في اختزال خارطة الوطن في الأراضي المحتلة عام 67، واختزال خارطة الحقوق الوطنية في إقامة دولة على هذه الأراضي، واختزال قرارات الشرعية الدولية الخاصة بالصراع، وجوهره القضية الفلسطينية، في القرار 242، واختزال العمل السياسي في التفاوض، واختزال الأخير في التفاوض الثنائي المباشر مع حكومات الاحتلال تحت الرعاية الأمريكية.

كما كان ينبغي على الطرفين الأساسيين في الحركة الوطنية الفلسطينية «فتح» و«حماس»، عدم إضاعة عام ونصف العام؛ بل المسارعة فوراً إلى إحداث نقلة نوعية في معالجة الانقسامات والخلافات والاختلافات الداخلية، آخذين بالحسبان أن إحداث هذه النقلة هو مفتاح تطوير وتصليب وتوسيع المواجهة السياسية والشعبية الدائرة لإحباط هذا الهجوم «الإسرائيلي» الأمريكي غير المسبوق، ولضمان استقطاب دعم خارجي متصل، عربياً وإقليمياً ودولياً، وبالمعنيين الرسمي والشعبي.

أما وأن قيادتي «فتح» و«حماس» لم تبادرا إلى إحداث هذه النقلة؛ بل ظلتا تعالجان أمر انقسامهما العبثي المدمر بالطرق القديمة ذاتها، وكأنه لا جديد يحدث في مجرى الصراع، فقد كان من الطبيعي أن تبقى المراوحة في المكان هي سيدة الموقف. لقد انطبق على قيادة الحركتين، وبجدارة، ذلك القول الصائب: «إن التعاسة في السياسة هي ألا يواكب الذهن تحولات الواقع».

والأنكى هو أن قيادتي الحركتين لم تكتفيا بعدم إحداث هذه النقلة، وإضاعة عام ونصف العام في جدل بيزنطي عبثي؛ بل زادتا أمر انقسامهما سوءاً على سوء، حين دخلتا في «لعبة» اتهامات متبادلة لا أساس لها من الصحة، عمادها اتهام كل منهما للأخرى بالمغازلة والتعاطي مع ما بات يُعرف، إعلامياً ب«الصفقة الأمريكية»، فيما يعلم الجميع أنه لا قيادة «فتح» ولا قيادة «حماس»، ولا قيادة أي من الفصائل تقبل بهذه الصفقة، وأن أياً من هذه النخب القيادية لا تستطيع تمريرها حتى لو أن أرادت.

وأكثر من ذلك، لم تحرك أي من الحركتين ساكناً بعد أن أعلن رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو، أن هدفه من وراء العمل على «تفاهمات التهدئة» مع قطاع غزة، هو تكريس الانقسام الفلسطيني، والحيلولة دون إقامة دولة فلسطينية، وأن حكومته الجديدة التي يعتزم تشكيلها ستضم أغلب أراضي الضفة الغربية، وفي أدناه تطبيق القانون «الإسرائيلي» على المستوطنات القائمة فيها، واقتطاع منطقة الأغوار، هذا بينما أعلن صاحب الخطة كوشنر، أنه أكمل إعداد خطته وأنه سيكشف بنودها مطلع يونيو/حزيران المقبل، وأن «حل الدولتين ليس جزءاً من هذه الخطة، وأن القدس ستبقى «إسرائيلية»، بما يؤكد أن انتزاع دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، ولو في الأراضي المحتلة عام 67، هو في الأساس، مهمة كفاحية، فما بالك بانتزاع كامل الحقوق الوطنية والتاريخية، وفي مقدمتها برنامج منظمة التحرير الفلسطينية المرحلي المتمثل في حق العودة وتقرير المصير والدولة، وأن ركيزة انتزاع ولو أدنى الأدنى من هذه الحقوق، إنما يتمثل في إعادة بناء الوحدة الوطنية؛ الأمر الذي لا يتحقق بإطلاق الدعوات العاطفية؛ بل بتوافر إرادة سياسية جادة، وباستشعار المسؤولية الوطنية في لحظة تاريخية فاصلة؛ أي بإنهاء اعوجاجات نهج التفرد والإقصاء، وإعلاء المصالح الفئوية على المصلحة الوطنية، وتغليب الحزبي على الوطني، علماً بأن التاريخ لا يرحم وأن الشعب لن يغفر.