صراع مفتوح لمتطلبات الانقسام

حجم الخط

لا يستطيع الكيان الصهيوني بحكم تكوينه العنصري الاستيطاني أن يعيش داخل حدوده الجغرافية التي أقامها عام 1948 بالقوة المسلحة، من دون أن يقوم بمهمات خارجية عدوانية وهو الشيء الذي حدث سابقًا من حروب في المنطقة ضد الدول العربية، كان آخرها الحرب الثالثة عام 2014 على قطاع غزة، ثم ما جرى أخيرًا من عدوان بشع عليه كان أكثر عنفًا مما سبقه، استمر يومين طال بالتدمير عدد من المباني السكنية وأسفر عن استشهاد ضحايا أبرياء.

 

ثلاثة حروب قبل هذا العدوان شنها الكيان الصهيوني على القطاع وكلها جرت في ظل صمت عربي وإسلامي رسمي، كان مفهومًا وليس غريبًا بحكم العلاقات الوطيدة التي تربط الكثير من أنظمة العالمين العربي والإسلامي بالولايات المتحدة الأمريكية الحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني، وكذلك في ظل تقاعس دولي بعدم اتخاذ موقف ضاغط من الأمم المتحدة ومن القوى السياسية الدولية الكبرى كالاتحاد الأوروبي الذي استلهم في هذا العدوان الموقف الأمريكي بالمطالبة بوقف إطلاق صواريخ المقاومة، دون الإشارة إلى القصف الإسرائيلي الجوي المدمر. أما الولايات المتحدة فقد كان موقفها السياسي دائمًا حيال أي عدوان إسرائيلي على القطاع هو موقف التأييد بما تقدمه من تبريرات باطلة، ومن دعم دبلوماسي في الأمم المتحدة باستخدام حق الفيتو لإلغاء إصدار أي قرار إدانة لما يرتكب من جرائم ضد المدنيين، وهو ما يدفع المؤسسة العسكرية الفاشية باستخدام القوة المفرطة لارتكاب المزيد منها.

لقد كان الهدف الحقيقي الذي يسعى الكيان الصهيوني إلى تحقيقه من وراء شن هذه الحروب والاعتداءات على القطاع، هو كسر شوكة المقاومة بتدمير قدراتها العسكرية المتنامية، ولكن بدون الرغبة بتغيير الوضع السياسي القائم على الانقسام السياسي بين الضفة والقطاع، سعيًا منه لتعطيل مشروع حل الدولتين الذي يحظى بإجماع دولي رغم تخلي واشنطن عنه بعد دخول ترامب البيت الأبيض كرئيس للولايات المتحدة، وهكذا فإن مصطلح التهدئة الذي شاع كتعبير سياسي أمني بعد الحرب الإسرائيلية الثالثة على القطاع عام 2014، هو ما ينسجم مع هذا المخطط الاسرائيلي بالمحافظة على الانقسام السياسي والذي لا يتعارض بدوره مع متطلبات نظام الحكم في القطاع الذي يطالب من وراء التهدئة بفك الحصار.

الحقيقة التي لا بد من توضيحها هي أن التصعيد الذي يجري في كل جولة وأخرى بين المقاومة، أو الطرف الأقوى فيها، أي حركة حماس مع العدو الصهيوني هو اشتباك صراعي مفتوح لازمته كل المتطلبات الأساسية لحالة الانقسام السياسي. صراع كما يؤكده الواقع قائم على تحقيق المصالح والاشتراطات المتبادلة؛ فممارسة أسلوب العدوان من قبل الكيان الصهيوني هو بهدف إظهار قدرة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة في دورتها الخامسة على المحافظة على تحقيق شروطها الأمنية بتوفير الأمن لمستوطنات غلاف غزة من فعاليات مسيرة العودة الأسبوعية، خاصة إطلاق البالونات الحارقة. أي معادلة تقوم على تهدئة مقابل تهدئة، وهو ما لا يتوافق مع مطلب حركة حماس المتمثل بتهدئة مقابل مال ووقود لشركة الكهرباء ومطالب أخرى للتخفيف من حدة الأزمات المعيشية المتفاقمة التي أثارت احتجاجات الشارع الغزي.

إن شكل هذا الصراع القائم على المصالح والحسابات الاقتصادية والأمنية يبقى صراعًا مفتوحًا لا نهاية له، ولا تجد في إنهائه اتفاقيات التهدئة أو التفاهمات الذي يتم التوصل إليها، عادة بالوساطة المصرية، أو القطرية، أو غيرهما؛ لأن الكيان الصهيوني أولًا: لا يملك استراتيجية واضحة باتجاه قطاع غزة تحوز بالإجماع من قبل الأحزاب السياسية؛ وثانيًا: لأن السياسة الإسرائيلية قائمة أصلًا على أسلوب المراوغة والمماطلة كما هو الحال مع اتفاقية أوسلو للحكم الذاتي، لذلك فسرعان ما تنتهي التهدئة لتبدأ جولة أخرى من التصعيد، وهو ما صرح به بعد وقف العدوان الأخير أحد ضباط الاستخبارات الكبار في الجيش الإسرائيلي، حيث قال بأن جولة من التصعيد متوقعة بعد أسبوعين، وأيضًا ما تناقلته الأنباء عن تصريحات للأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي الأستاذ زياد النخالة بأن حرب كبري قادمة متوقعة خلال شهرين. كذلك فإن مطالب حركة حماس تزداد في أعقاب كل جولة من التصعيد، فمن إدخال الوقود القطري إلى إدخال الأموال القطرية إلى المطالبة حسب تصريح أدلى به مؤخرًا الزهار بميناء ومطار، وهو ما يعطي للإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية إشارات بإمكانية تأهيل القطاع لإقامة كيان سياسي منفصل عن الضفة في غزة، بدلًا من مشروع حل الدولتين الذي أعلن كوشنر مستشار الرئيس الأمريكي ترامب، بأنه بند لن تتضمنه صفقة القرن باعتباره مطلب خلافي بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

الصراع الدائر بين الكيان الصهيوني وقطاع غزة سيبقى عبر جولات التصعيد صراعًا ماديًا بعيدًا عن طبيعة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، القائم على مسألة التحرير والخلاص من الاحتلال، وسيبقى أيضًا مكلفًا على الجانب الفلسطيني لما يسببه من خسائر في صفوف المدنيين الأبرياء، ومن تدمير للمباني السكنية والمؤسسات؛ ولكنه أيضًا سيكشف بشاعة وجرائم الاحتلال الإسرائيلي، مما يساعد على الحد من هرولة بعض الأنظمة العربية نحو مزيد من إجراءات التطبيع، وكذلك على المستوى الدولي حشد التأييد للشعب الفلسطيني في كفاحه ونضاله العادل المشروع لنيل حقوقه السياسية في التحرر والاستقلال الوطني.