الحركات الاحتجاجية وتهديد وجود الدولة

حجم الخط

لا يهدف هذا الحديث، للتعرض لحق الشعوب في البلدان العربية، التي شهدت مؤخراً حركات احتجاجية واسعة، وتحديداً في الجزائر و السودان ، ضد الاستبداد والفساد، فتلك حقوق إنسانية، ضمنتها القوانين الوضعية، والشرائع السماوية. ولكن التحذير من مخاطر الانزلاق، في تهديد وجود الدولة الوطنية ذاتها، وتعرض وحدة هذه البلدان للتشظي والتفتيت. وذلك أمر شهدناه عدة مرات، إثر اندلاع ما يسمى «الربيع العربي»، في ليبيا وسوريا واليمن. كما شهدناه من قبل، إثر الاحتلال الأمريكي للعراق، وحل الجيش العراقي، وصدور قرارات الاجتثاث سيئة الصيت.

تجمعنا الكثير من الصلات مع السودان والجزائر، بما يعطي لهذا الحديث أهمية خاصة. فهما ينتميان إلى بوابات ثلاث هي البوابة العربية، والبوابة الإسلامية، والبوابة الإفريقية. وقد رزحتا زمناً طويلاً تحت الحكم العسكري. والبلدان يشكلان نقطة وصل استراتيجية، بين البلدان العربية، وبقية الدول الإفريقية. ويسهم موقع الجزائر، على حوض البحر الأبيض المتوسط، في ربطها بعلاقة خاصة ومتينة بالقارة الأوروبية، حيث لا يبعد الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط عن الساحل الشمالي، أكثر من 700 كيلومتر. والجزائر قلب الجناح الغربي للوطن العربي.
وقع البلدان تحت سيطرة الاحتلال الغربي. احتلت فرنسا الجزائر، واحتل الإنجليز بالتعاون مع أحفاد محمد علي باشا، السودان، حيث استمر الحكم الثنائي: المصري- الإنجليزي للسودان حتى قيام ثورة 23 يوليو/ تموز 1952م.

ترك الاحتلال الغربي لهذه البلدان أثراً كبيراً، في تحقيق التبعية الثقافية، خاصة أن المحتل، وبشكل خاص المحتل الفرنسي، حاول القضاء على هوية السكان الأصليين، وإحلال هويته وثقافاته محلها. وبالمثل، تأثر السودانيون، وإن بنسب، بالثقافة الإنجليزية، وقد تركت هذه الحقائق بصماتها واضحة على ال قطر ين، بعد إنجاز الاستقلال. وقد برزت منظمات ثقافية واقتصادية، لرعاية هذه التبعية، يأتي على رأسها، الفرنكفونية والكومنولث البريطاني. 

ويلحظ المرء دون صعوبة، انغماس الفرنسيين، وتدخلاتهم المستمرة، في مستعمراتهم السابقة، كما هي الحال، مع الجزائر، في جملة الأحداث السياسية التي مرت بها، سواء بعد حصد جبهة الإنقاذ الإسلامية، غالبية مقاعد البرلمان في مطالع التسعينات من القرن المنصرم، أو في الأحداث الراهنة الجارية على قدم وساق في بلاد الأوراس. 

وحين يتعلق الأمر بالموقف البريطاني، حرصت الحكومات البريطانية المتعاقبة، على استمرار علاقتها بمستعمراتها السابقة. ومنحت مميزات وتسهيلات، داخل الأراضي البريطانية، لمواطني تلك البلدان. ولا شك في أن هذه المواريث الثقافية، شكلت إعاقة في تحقيق التكامل الثقافي العربي. وأسهمت في بروز وغلبة الهويات الجزئية على حساب الهويات الوطنية الجامعة. 

لقد ألقت تلك المواريث بظلال كثيفة على مرحلة ما بعد الاستقلال، وحددت شكل خريطة التوازنات السياسية بين القوى الفاعلة، إن في مسار السودان الحديث، حيث تكرست زعامة المهدية والختمية في إدارة الحكم فيه، بعد الاستقلال. والحال هذه تنطبق على قيادة جبهة التحرير الجزائرية. 

وبعد الاستقلال ساد خطاب رسمي لدى قادة هذه البلدان مفاده أن التعددية السياسية فشلت في حل المسألة الوطنية، وأسهمت في تعطيلها. وعُممت هذه الرؤية على الطبقة المتوسطة، والمتعلمة منها بالتحديد، وهي طبقة الثقافة والعلم والإبداع والفنون.

وفي ظل هذا الإرث السياسي، لم يكن وارداً، أن يتم اختيار غير التفرد، نمطاً لتسيير عمل الدولة، وهذا ما أثبتته التجربة التاريخية للنظم العسكرية المعاصرة. على أن التعميم في هذه الاستنتاجات غير دقيق. فالأحداث التاريخية لا تجري بوتائر واحدة، وكثيراً ما تفتقر إلى التناسق. 

تسبب غياب الدولة العصرية، في أزمات مستعصية بلغت في بعض الحالات حد تهديد الأمن القومي، وانفصال أجزاء من الوطن عن المركز. وذلك ما حدث في السودان، حين انفصل الجنوب عن المركز، بعد حروب طويلة ودامية. وحظي الانفصال باعتراف الأسرة الدولية. كما شهد إقليم دارفور اضطرابات اجتماعية، كادت تؤدي إلى انفصال الإقليم عن المركز. يضاف إلى ذلك انتشار ظاهرة الجوع والفقر والبطالة، والعجز عن تلبية استحقاقات الناس.

في الجزائر، شهدت البلاد أحداثاً مماثلة، لم ترق حد الانفصال. من بينهما مطالبة الأمازيغ بحقوقهم الثقافية، واعتماد لغتهم، لغة رسمية ثانية في البلاد. كما كانت الجزائر ضحية الصراع بين رفاق الأمس، قادة جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، الذين قام بعضهم بانقلابات عسكرية فاشلة.
ورغم الثروات التي تختزنها الجزائر، فإن معدل دخل الفرد لا يزال متدنياً جداً، حتى بقياس الدخل في الدول النامية. وهناك الملايين ممن تضطرهم ظروف العيش القاسية إلى الهجرة إلى فرنسا وعدد آخر من الدول الأوروبية. 

هناك خشية حقيقية، أن يؤدي استمرار الحركات الاحتجاجية، في كل من الجزائر والسودان، وارتفاع سقف المطالبات، إلى سيادة الفوضى. فلم تعد المطالبات مقتصرة على التخلص من هرم السلطة، بل باتت تتمدد يومياً، لتصل لأشخاص أدنى في سلم السلطة، بما يهدد بتفكك الدولة في البلدين، ويسهل من اختراقات القوى الإقليمية والدولية، في هذين البلدين.

نحن الآن أمام احتمالين، الأول: أن تحسم المؤسسة العسكرية خياراتها، وتضع حداً للحركة الاحتجاجية، بما لا يعرض البلدين لمخاطر أكبر، والثاني، هو أن ترخي المؤسسة العسكرية قبضتها فيتواصل رفع سقف مطالب المحتجين، ليصل حد اقتلاع الدولة العميقة، وترك فراغ سياسي ومؤسساتي خطير، وهذا هو ما يرفضه أي عربي غيور على أمته.