عن "اللا إخوانية"

حجم الخط
بخطاب "شيطنة" المنافسين، و"تأليه" الذات، وبناء تنظيم "إسبارطي" حديدي الانضباط، نجح "الإخوان" المصرية في كسْبِ قاعدة شعبية واسعة رفعتهم إلى السلطة بعد ثمانية عقود من الوجود في صفوف المعارضة. لكن ثمة مفارقة تحتاج تفسيراً، فحواها: أن ثمانية شهور، (فقط)، من الوجود في السلطة كانت كافية لإظهار فشل الجماعة في الحكم والحفاظ على شعبيتها، بل، وكانت كافية لتأسيس معارضة سياسية وشعبية آخذة بالتوسع والتعمق والتوحد ضد سلطتها. بوسع قيادة "الإخوان" تفسير الأمر كله بكراهية الخصوم المسبقة، (الأيديولوجية)، للجماعة، بل، وبوسعها أن ترفع هذا التفسير إلى منزلة اتهام خصومها بـ"اللا إخوانية"، وكأن "اللا إخوانية" هذه جاءت رغماً عن تاريخ ممارسات الجماعة المعارضة والسلطة، وليس بفضل، وبسبب، هذا التاريخ المتخم بـ"تـأليه" الذات وتفضيلها على الموضوع. وبتقديم الحزبي على الوطني. وبمساواة برنامج ثورة 25 يناير العام ببرنامج الجماعة الخاص. وبمساواة الواقع المتحرك بالأيديولوجي الثابت، كأنه هو. هذا ناهيك عن عدم إدراك الجماعة أن ما بعد ثورة 25 يناير هو غير ما قبله تماماً؛ وأن زمن الحزب الواحد قد ولى إلى غير رجعة؛ وأن زمن "الحاكم بأمره" في "نظام الملة العثماني" صار خارج الممكن التاريخي؛ وأن زمن تحصين قرارات السلطة التنفيذية ضد رقابة القضاء المستقل وانتقادات والشعب السيد، قد انتهى؛ وأن العودة إلى قانون حالة الطوارئ، وإجراءات فرض حظر التجوال، صارت غير مجدية في التعامل مع جماهير مدن قناة السويس الثائرة التي سخرت منها، وتحدتها، ناهيك عن أنها لن تكون مجدية، (بالتأكيد)، مع جماهير بقية المدن المصرية، وخاصة العاصمة والإسكندرية؛ وأن شعباً ثار لن يهدأ إلا بتحقيق مطالبه في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية؛ وأن حسماً سريعاً ومستقراً لنتائج ثورة 25 يناير المختطفة غير ممكن، ما دام الشباب الذي نال شرف إطلاق شراراتها طاقة ثورية موضوعية فاعلة وسط شعب يلتف حولها؛ وأن الاتكاء على التحالف مع الولايات المتحدة الناهبة إياها لمواجهة الشريك الوطني المطالب بتحقيق أهداف الثورة لن يحصد سوى ما حصده نظام مبارك المخلوع إياه من هذا التحالف الضارب للاستقلال والسيادة الوطنيين؛ وأن التهدئة مع إسرائيل العدوانية التوسعية إياها من أجل التفرغ لتثبيت التفرد بالسلطة وإقصاء المنافسين، (شركاء الأمس)، عنها، لن يحصد سوى ما حصده "ذخر إسرائيل الإستراتيجي" المُطاح، مبارك، من خضوع وطني للشروط الأمنية الإسرائيلية؛ وأن استمرار العداء الأيديولوجي للتجربة الناصرية، بكل ما لها من انجازات وطنية وقومية واجتماعية، رغم ربع كأسها الفارغ، لن يفضي إلا إلى زيادة التمسك الشعبي المصري، بل، والعربي، بهذه التجربة، وإلا لكان بلا معنى العودة غير المسبوقة إلى رفع صور قائدها في ميادين الثورة المملوءة عن بكرة أبيها بملايين بسطاء المصريين يهتفون بشعارات "يسقط.. يسقط حكم المرشد"، و"الريِّس قالها مِن زمان....الإخوان مالهمْشِ أمانْ"، بل، وإلى مفاجأة أن يحصل رمز تجديد هذه التجربة، حمدين صباحي، على ملايين الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية؛ وأن اتهام المنافس الوطني بـ"الكفر" صار عملة عتيقة؛ وأن تهمة "الفلول" وتلقي التمويل الأجنبي ونشر الفوضى أصبحت بمثابة نكتة صادرة عن جماعة مجهول مصدر تمويلها، ومكشوفة صفقاتها مع بقايا النظام المخلوع، ومعروف حدَّ الفضيحة تبنيها لسياسته الخارجية والاجتماعية الاقتصادية إياها المنحازة لطبقة السماسرة وكبار رجال المال والأعمال والتجار الكمبرادورية الفاسدة والمفسدة والمرتهنة على حساب عشرات ملايين المصريين المطحونين بالفقر والبطالة والأمية والعيش في "العشوائيات" والمقابر. على أية حال، بوسع قيادة جماعة "الإخوان" أن تتجاهل كل ما سبق من أسباب ملموسة تفسر مفارقة أن تكون ثمانية شهور، (فقط)، من الوجود في السلطة، كافية لضرب مصداقية سياسية وشعبية احتاج "الإخوان" إلى ثمانية عقود لبنائها، بل، وأن تكون كافية لإنتاج ظاهرة "اللا إخوانية"، لا على مستوى الشعب المصري وقواه الوطنية وشبابه الناهض، فحسب، بل، وعلى مستوى بقية الشعوب العربية، أيضاً. هنا، وبعيداً من التفسيرات "الإخوانية" الأيديولوجية ، ثمة ظاهرة يصعب تفسيرها من دون الاتكاء على، واستخدام، مقولات، وأدوات تحليل، علم الاجتماع السياسي، أولاها تلك القائلة بضرورة عدم الخلط، (بوعي أو بجهالة)، ما بين السيطرة والهيمنة، كمفهومين كثيراً ما يتم اعتبارهما مترادفين، والحقيقة أنهما مختلفان. إذ صحيح أن كلا منهما تعني سيادة على آخر، إلا أن السيطرة تعني سيادة قائمة على إكراه المسود، سواء قاوم أو لم يقاوم، وهذا ما تمارسه، بالتمام والكمال، سلطة "الإخوان" الناشئة، بينما تعني الهيمنة سيادة قائمة على قبول المسود، سيان عن وعي حقيقي لمصلحته، أو عن وعي زائف لها، وهذا ما يصعب على "الإخوان"، بطبيعتهم المحافظة، تمثله، متناسين أنه كان لافتاً، وذا معنى، (مثلاً)، إيراد المهيمن كواحد من أسماء الله الحسنى، بينما جاءت سيادة المُسيطر مذمومة لقوله تعالى مخاطباً رسوله: "لستَ عليهم بمسيطر"، ولقوله: "وجادلهم بالتي هي أحسن". عليه، لئن كان عسيراً على الإخوان" أن يدركوا، (وهم "المسلمون")، تمييز الخالق بين السيطرة والهيمنة، فإن من المنطقي ألا يدركوا فارق المضمون بينهما، كما صاغه المفكر المناضل الإيطالي، غرامشي، الذي طور صياغة هيغل، فماركس، له، مقدِّماً بذلك أهم نقد ماركسي للفهم "الستاليني" لموضوعة السلطة، وهو ما أُعتبر أحد أهم مساهماته النوعية، في النظرية، عموماً، وفي علم الاجتماع السياسي، خصوصاً، وجوهره: حيثما تلجأ السلطة، (أي سلطة)، إلى قيادة الناس بالإكراه، واستخدام وسائل القوة العارية، وإقصاء الآخر، تكون سيادة "السيطرة"، المرادفة للديكتاتورية بنظاميها: الطغيان، (غياب القانون)، والاستبداد، (التعسف في تطبيق القانون)؛ وهو ما يفضي، تلقائياً، ومنطقياً، إلى لجوء المعارضين لمثل هذه السلطة، إلى اتخاذ العنف، (المواجهة الشاملة بكلماته)، سبيلاً، أساسياً، لإسقاطها. بينما تفضي سلطة قيادة الناس بالإقناع، وقبول التنافس مع الآخر، إلى سيادة "الهيمنة" (hegemony)، المرادفة للديمقراطية البرجوازية الليبرالية، بأشكالها، ومستوياتها، سياسياً واجتماعياً؛ وهو ما يضطر المعارضين لمثل هذه السلطة، تلقائياً، ومنطقياً، أيضاً، إلى اتباع طرائق النضال الجماهيري السلمي، و"حرب المواقع البرلمانية"، سبيلاً، أساسياً، للوصول إلى السلطة، والتداول السلمي لها. بقي القول: كان المظهر السلمي هو المظهر الطاغي في ثورة 25 يناير، لكن يبدو أن قيادة "الإخوان المسلمين" التي لم تحظَ بشرف إشعال أو قيادة هذه الثورة، تصر على إغراق موجتها المتجددة في الذكرى السنوية الثانية لاندلاعها، في عنف لا تحمد عقباه على مصر الدولة والشعب والمجتمع والدور والمكانة، لكن الأمل، كل الأمل، يبقى في شعب الثورة، وفي ما تبديه القوى الوطنية والائتلافات الشبابية، من صبرٍ، وطول نفس، وحرصٍ على استمرار سلمية ثورة شعبهم حتى تحقيق مطالبها، وفي ما يبديه جيش مصر الوطني، (حتى الآن)، من حرصٍ على حماية مقدرات مصر الدولة وممتلكاتها، إنما دون حماسة للتعرض لجماهير الشعب المصري وتظاهراته السلمية كما تدعوه إليه جماعة "الإخوان" التي لم تكتفِ بالخروج من الميدان، فقط، بل، تصر، أيضاً، على قمع احتجاجاته السلمية المتجددة التي بفضلها، أساساً، وأولاً، بلغت سلطة تستخدمها اليوم وسيلة لإعادة إنتاج النظام المخلوع، وإن بحلة جديدة، و"أيادٍ متوضئة"، ومناورات مكشوفة عمادها لعبة "الغاية تبرر الوسيلة" البائسة، التي لم تحصد حتى الآن غير ظاهرة "اللا إخوانية"، ونظن أنها لن تحصد في المستقبل غير توسيع هذه الظاهرة وتعميقها، مصرياً وعربياً في آن.