تحولات الهوية الفلسطينية

حجم الخط
يمكن اعتبار مرحلة الحكم الاستعماري البريطاني بداية لتبلور الهوية الفلسطينية فهي عزلت فلسطين عن بقية أجزاء المشرق العربي، وفرضت على عربها نظاماً طبقياً رأسمالياً، حيث نما داخله مجتمع عربي تمتع بخصوصية معينة. بالإضافة إلى ذلك، قامت الدولة الاستعمارية بريطانيا بإخضاع فلسطين لاستيطان كولونيالي أوروبي ـ الاستيطان الصهيوني ـ الأمر الذي زاد من خصوصية المجتمع الفلسطيني. وأنتجت الشروط الاقتصادية ـ السياسية ـ الاجتماعية التي نشأت عن هذه التحوّلات الجذرية، سياقاً خاصاً أثر بشكل جذري على الهوية الفلسطينية. أدى القمع التركي الشوفيني والشرذمة الإقليمية الاستعمارية إلى إضعاف الحركة الوطنية العربية الصاعدة في سوريا، كما أن تحويل فلسطين من قبل الإدارة العسكرية البريطانية إلى مستعمرة تحت اسم «الانتداب البريطاني»، أدى إلى عزلها عن بقية الكيانات الإقليمية العربية الأخرى. كما أن الاستفراد بفلسطين وبداية تطبيق المشروع الكولونيالي الصهيوني داخلها، أدى بدوره إلى احتجاز تطور البرجوازية الفلسطينية والتي نمت بشكل مشوّه تحت التبعية للمركز الاستعماري البريطاني والهيمنة الكولونيالية الصهيونية. لم تنشأ الحركة الوطنية الفلسطينية في ظل الهيمنة الاستعمارية البريطانية على فلسطين بل نشأت كجزء من الحركة الوطنية في سوريا قبل احتلال فلسطين وبداية استعمارها في العام 1917. وتابعت الحركة الوطنية نضالها خلال فترة الحكم الاستعماري البريطاني، ويمكن اعتبارها رافداً من روافد الحركة الوطنية العربية التي نشأت في سوريا الكبرى. وظهرت الحركة الوطنية في فلسطين وكأنها نوع من التواصل مع الحركة الأم في سوريا الكبرى، وذلك على الرغم من العزلة الجغرافية ـ السياسية التي فرضها الاستعمار البريطاني على فلسطين. مما يثبت ذلك المواقف السياسية التي اتخذتها كل من الحركة الوطنية الفلسطينية والأحزاب الفلسطينية. عقد المؤتمر العربي الفلسطيني الأول في العام 1919، وحضره مندوبون يمثلون أندية عدة وجمعيات مسيحية وإسلامية. وارتكز المؤتمر على المبادئ التالية: ÷ إن فلسطين هي سوريا الجنوبية وجزء لا يتجزأ من سوريا. ÷ الاستقلال التام لسوريا جميعها بلا حماية ولا وصاية ولا احتلال وضمن الوحدة العربية. ÷ رفض تصريح بلفور، ورفض الهجرة اليهودية إلى فلسطين. وعقد المؤتمر العربي الفلسطيني الثاني في العام 1920 والذي اعتبر سوريا الجنوبية قطعة من سوريا، ورفض الوطن القومي اليهودي والهجرة اليهودية لأن الخطر الصهيوني إذا تمكّن من فلسطين فهو سيبتلع الكيان السياسي لسوريا الشمالية والساحلية مع الزمن. ولكننا نرى أن القادة الوطنيين المشاركين في المؤتمر الفلسطيني الثالث والذي عُقد في العام 1921، أسقطوا من مطالبهم الوطنية اعتبار فلسطين سوريا الجنوبية وجزءاً لا يتجزأ من سوريا وطالبوا بإقامة حكومة وطنية مستقلة، كما وانتخبوا لجنة تنفيذية للإشراف على سير الحركة الوطنية. مع ذلك ففي حزيران 1921 عقد المؤتمر الفلسطيني الرابع في القدس وانتخب وفداً للسفر إلى بريطانيا للمطالبة بالحقوق الوطنية. ومن لندن أوفد الوفد ثلاثة من أعضائه إلى جنيف للاشتراك في المؤتمر السوري الفلسطيني، الذي دعا إليه حزب الاتحاد السوري ولعرض القضية أمام أوساط عصبة الأمم. وقد قدم المؤتمر بياناً إلى رئيس عصبة الأمم يطالب فيه باستقلال سورية ولبنان وفلسطين، وبإلغاء تصريح بلفور. وفي الفترة 1921 ـ 1933 حدثت نشاطات سياسية في فلسطين منها انتفاضة يافا في أيار 1921 ضد الاستيطان الصهيوني، والمؤتمر الفلسطيني الخامس الذي رفض الدستور البريطاني المقترح ودعا لمقاطعة الانتخابات للمجلس التشريعي المقترح الذي اقترحت بريطانيا أن يتألف من 11 عضواً بريطانياً معيناً، والأعضاء المقترحون للانتخاب هم يهوديان، مسيحيان، و8 مسلمون، بحيث تكون الغالبية للإنكليز والصهاينة. وفي حزيران 1923 عقد المؤتمر الفلسطيني السادس في يافا، وحدثت مظاهرات صاخبة في فلسطين وسوريا ضد زيارة بلفور لفلسطين في آذار 1925، كما وحدثت مظاهرات في فلسطين ضد زيارة المفوض السامي الفرنسي دو جفينيل. وعقد المؤتمر الفلسطيني السابع في حزيران 1928. وفي العام 1929 اندلعت ثورة البراق لمنع الصهاينة من محاولة الاستيلاء على حائط البراق، أي الحائط الغربي للحرم الشريف. وانتشرت التظاهرات ضد الاستيطان الصهيوني ووقعت اشتباكات في الخليل وصفد والقدس. وقرر العرب مقاطعة اليهود اقتصادياً، ولكن السلطات زجت في السجون بكل من حرض على المقاطعة أو أشرف على تنفيذها، متجاهلة أن اليهود هم الذين بدأوا المقاطعة... وعُقد في العام 1929 أول مؤتمر نسائي فلسطيني أيّد المطالب الوطنية ورفض الانتداب، كما اندلعت مظاهرات ضخمة سارت في البلاد العربية تأييداً للعرب في فلسطين. وفي العام 1931 عُقد «مؤتمر إسلامي عام حضره مندوبون عن جميع الأقطار الإسلامية والعربية تقريباً... وأعلن المؤتمر قدسية البراق واستنكر أي مطمع فيه، وأكدت قراراته تأييد قضية فلسطين والدفاع عنها، واستنكار السياسة البريطانية الصهيونية المتبعة في البلاد... وعند انتهاء المؤتمر الإسلامي عقد مؤتمر عربي حضره كافة المندوبين العرب... ووضعوا فيه ميثاقاً قومياً ينص على وحدة البلاد العربية، ويرفض التجزئة، ويدعو إلى مقاومة الأفكار الداعية إلى الاهتمام بالسياسة المحلية على حساب القضية القومية الأصلية، ويرفض الاستعمار بكل صوره. وفي الفترة 1932 ـ 1933 عقدت اجتماعات شعبية في مدن فلسطينية مختلفة، وصدرت قرارات تنادي بعدم التعاون مع السلطات الاستعمارية البريطانية، وتحدي قوانينهم والمطالبة بالاستقلال. ودعت اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني إلى تظاهرتين واحدة في القدس في 13/10/1933 وواحدة في يافا في 27/10/1933. وفي الوقت ذاته اندلعت مظاهرات تضامنية في مصر وإضرابات دامت شهرين في سورية. وتثبت هذه المؤتمرات والنشاطات والمواقف السياسية أن التواصل بين الحركة الوطنية الفلسطينية والحركة الوطنية العربية في سوريا بقي مستمراً. فبالرغم من العزلة الجغرافية والحدود السياسية التي فرضها الاستعمار البريطاني على فلسطين، فإن الحركة الوطنية في فلسطين واصلت ارتباطها بالحركة الأم في سوريا. واستمرّ هذا التواصل خلال فترة الحكم الاستعماري البريطاني. ولكنه وصل إلى مداه الأخير عند نشوء الإقليمية الفلسطينية والإقليمية السورية. **أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت عن ملحق "فلسطين" الصادر عن جريدة "السفير"- بيروت