شهادة الغفلة وإهدار الأولويات

حجم الخط
لم نعد بحاجة إلى ثورة مضادة لإجهاض ثورة 25 يناير، فالذي نفعله بأنفسنا كفيل بتحقيق ما يصبو إليه الأولون، ذلك أنه إذا كان خصمك مقدما على الانتحار فمن الحماقة أن تسعى لقتله. 1 ما يحدث في مصر الآن نموذج فادح لخلط الأوراق، ودرس بليغ في التفتيت والتمزيق وإهدار الطاقات. آية ذلك مثلا أن الثورة التي رفعت في البدايات شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، كادت تنسى كل ذلك أو انحرفت عنه، وباتت أهم المفردات التي تتردد في فضائها الإعلامي والسياسي هي: السلفية والكفار والمايوهات البكيني! ــ وكما فرض الرئيس الأميركي السابق جورج بوش على العالم أولوية مكافحة خطر الإرهاب أو الإسلام القتالي في أوائل العقد الفائت، فإن خطابنا الإعلامي على الأقل نجح في تعبئة المصريين وشحنهم ضد خطر ما سمى بالإسلام السياسي، وأعانهم السلفيون على ذلك عن غير قصد حين قدموا لهم ــ بدأب مدهش ــ كل خامات الرسائل المنفرة والمفخخة التي روعت الناس وأشاعت بينهم درجات مختلفة من الخوف والقلق. بشكل مواز مع الجهد المبذول للتخويف والترويع، شهدنا إصرارا مدهشا أيضا على تمزيق صفوف الجماعة الوطنية وتشتيتها، لنصبح معسكرات متقاطعة ومتحاربة، لا يمد أحد فيها يده إلى الآخر، وإنما يتسلح كل واحد بخنجر ليطعن به الآخر. ثمة إصرار على تحويل الخلاف السياسي إلى صراع على الهويات، يضع الإسلاميين في جانب ويضع العلمانيين والأقباط في معسكر الضد. ويحاصر الأولين في قفص الدولة الدينية بكل الشرور التي ارتبطت بها في الخبرة الغربية. في حين يجعل الآخرين الوكلاء الحصريون للقيم المدنية والحداثة والديموقراطية والليبرالية. حتى حين كتب مثقف بارز بوزن وحجم المستشار طارق البشرى دراسة أزال فيها التعارض المفتعل بين الدولة المدنية والمرجعية الإسلامية، في محاولة لإقامة مصالحة رصينة بين القيمتين، فإن بعض المثقفين لم يعجبهم ذلك، فرفضوا المصالحة وأصروا على المفاصلة. رغم أن للرجل تاريخا حافلا بالدفاع عن تماسك لحمة الجماعة الوطنية، وله اجتهاداته المنيرة في توثيق العرى بين المسلمين والأقباط بوجه أخص. من جانبي كنت اعتبر نفسي أحد المسلمين المدافعين عن الحداثة والديموقراطية والمجتمع المدني، ولى في ذلك كتب ومقالات منشورة خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أنني فوجئت في الآونة الأخيرة بدعاة المفاصلة يصرون على استحالة اجتماع تلك القيم مع بعضها البعض، بحيث يتعين على خلق الله الأسوياء أن يختاروا بين الولاء لدينهم أو الانخراط في صفوف الحداثيين والديموقراطيين. وهو موقف أثار حيرتي، حتى قلت إننا إذا كنا متفقين حول الحداثة والديموقراطية ومدنية المجتمع. فمصدر الخلاف إما أن يكون حول ما تعنيه تلك المصطلحات أو أن يكون حول الإسلام ذاته دينا ودورا. 2 طوال الأسابيع الماضية ظل الاحتراب الداخلي والتراشق بين أطراف اللعبة هو الشاغل الرئيسي للنخبة ومنابر الإعلام، ولم يتذكر هؤلاء أن ثمة ثورة لم تحقق أهدافها، وأن هناك تحديات يتعين على الجميع الاحتشاد لمواجهتها. وتباينت أصداء هذا المشهد في الخارج. إذ قرأنا تندرا واستخفافا من بعض كتاب الصحف العربية اللندنية بوجه أخص. الذين ما برحوا يتساءلون قائلين: أهذا هو الربيع العربي الذي بشرتمونا به؟ وتحدث معلقون غربيون عن أن مصر والعالم العربي ليسوا من المؤهلين للديمقراطية. ونشرت الصحف الإسرائيلية تعليقات لعدد غير قليل من الكتاب فرقت بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي. وقال أولئك الكتاب أنه في المدى القصير (التكتيكي) فإن الوضع في مصر ليس مقلقا، لكن التحول الحقيقي يمكن أن يحدث على المدى البعيد، خصوصا إذا كان للإسلاميين دور في الحكم أو مشاركة قوية في البرلمان. لذلك فإنهم يعتبرون الخط استراتيجيا وليس تكتيكيا أو مرحليا. أثار انتباهي في هذا الشق الأخير أن ارتياح إسرائيل إزاء الوضع المستجد في مصر وصل إلى حد مطالبة الولايات المتحدة بضرورة العمل على إبقاء المشير محمد حسين طنطاوي والمجلس العسكري في السلطة والضغط لعدم تسليمها إلى المدنيين. عبر عن ذلك بشكل صريح تقرير نشرته صحيفة «معاريف» واحتل العناوين الرئيسة للصفحة الأولى التي كانت كالتالي: إسرائيل تحذر الولايات المتحدة من مغبة إضعاف طنطاوي ــ إسرائيل للعالم: يجب الحفاظ على طنطاوي. من الإشارات المهمة في تقرير إيلي برندشتاين وعميت كوهين المنشور في 28/11 ما يلي: ـ ان وزارة الخارجية الإسرائيلية نقلت في الآونة الأخيرة رسالة إلى العواصم المركزية في أوروبا وكذلك واشنطن رسالة تقول إنه يجب الحفاظ على المشير طنطاوي والامتناع عن كل ما من شأنه إضعاف صلاحياته وصلاحيات المجلس العسكري الحاكم في مصر. ـ وجهت محافل سياسية رفيعة المستوى في إسرائيل انتقادا حادا ضد البيت الأبيض، الذي كان قد دعا إلى نقل صلاحيات المجلس العسكري إلى حكومة مدنية في أقرب وقت. وقال مصدر سياسي كبير إن الولايات المتحدة تكرر خطأها منذ عهد الثورة الأول، حين دعت مبارك إلى ترك الحكم. وهو ما من شأنه ان يضعف ثقة الحلفاء العرب في السياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط. ـ السياسة المركزية لوزارة الخارجية التي تم الاتفاق عليها في أعلى المستويات بالوزارة هي الامتناع عن ممارسة أي ضغوط على الجيش المصري لنقل الصلاحيات إلى حكم مدني. وفى إطار هذه السياسة قررت إسرائيل الامتناع عن خطوة كان من شأنها إشعال النار في الشرق الأوسط. فقد أمر رئيس الوزراء نتنياهو بلدية القدس بأن تؤجل لأسبوع هدم جسر المغاربة الذي يربط بين حائط البراق (المبكى) والحرم. وكان قرار الهدم قد صدر من قبل ولكن رسائل تحذير مصرية تلقتها إسرائيل من مصر والأردن أفادت بأن هذه الخطوة يمكن أن تؤجج نار الغضب في القاهرة وعمان، والمظاهرات في البلدين جاهزة لذلك. 3 حين التقى رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الأميركي جون كيري قيادات حزب الحرية والعدالة في القاهرة مساء السبت الماضي 10/12 كان السؤال الأساسي هو: ما موقفكم من معاهدة السلام مع إسرائيل؟ وكان الرد الذي سمعه أن الحزب مع احترام الدولة لمعاهداتها مع الدول الأخرى، لكن المعاهدات ليست أبدية، واستمرارها مرهون بوفاء أطرافها بالتزاماتهم المتبادلة، كما أن للدولة عبر مؤسساتها الشرعية أن تعيد النظر فيها بما يخدم مصالحها العليا. كنت قد ذكرت من قبل، أن السيد كيري أوفد فريقا من مساعديه في مهمة مماثلة إلى تونس، للتعرف على موقف حركة النهضة من إسرائيل، بعد فوز حزبها بأعلى الأصوات في انتخابات المجلس التأسيسي. وإن كان العرض مختلفا، لأن الوفد تحدث عن رغبة بعض الإسرائيليين في استثمار أموالهم في تونس. ولأنه لا توجد اتفاقات أو معاهدات رسمية بين البلدين حتى الآن، فإن ممثلي النهضة ردوا بأن هذا الموضوع لا يمثل أولوية الآن. وأن الحكومة الجديدة معنية بالوضع الداخلي وكل تركيزها منصب بالدرجة الأولى على إنجاح التجربة الديمقراطية في البلد. إذا لاحظت أن السيد كيري جاء بنفسه إلى القاهرة لتحرى الأمر رغم أن الانتخابات لم تنته، وأنه أرسل مساعديه إلى تونس رغم أن انتخاب الجمعية التأسيسية تم ومعالم خريطة القوى السياسية قد استبانت، فلعلك تتفق معي في أن تلك قرينة دالة على الأهمية الخاصة التي يمثلها الملف الإسرائيلي في قراءة واشنطن للتحول الحاصل في مصر. وكنت قد قلت في محاضرة بتونس مؤخرا إن نجاح التجربة الديموقراطية في تونس يمكن أن يحتمل ويمر في الحسابات الأميركية، لكن الأمر أكثر تعقيدا في مصر بسبب معاهدة «السلام» وكونها في الخط الأول في المواجهة مع إسرائيل. هذا الموضوع لا يزال محل حوار ممزوج بالخوف والقلق ولم يتوقف في إسرائيل منذ أسقطت الثورة الرئيس السابق (كنزها الاستراتيجي!) في العاشر من فبراير الماضي. لكن ذلك الحوار اتسم بالسخونة قبل نحو أسبوعين حين أعلن وزير الدفاع السابق وعضو الكنيست حاليا بنيامين بن أليعازر أنه يتوقع مواجهة عسكرية مع مصر. وقد ذكرت صحيفة «إسرائيل اليوم» في 2/12 أن تل أبيب تلقت احتجاجا مصريا على هذه التصريحات، التي أغضبت أجهزة الأمن الإسرائيلية التي تعتبر الموضوع بالغ الدقة والحساسية. نقلت الصحيفة على لسان بن أليعازر قوله إنه يعلم بأن مصر تعد التالية في الأهمية بالنسبة لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، وانه شخصيا أسهم من خلال علاقته الخاصة بمبارك في تعزيز العلاقات بين البلدين، لكن الأوضاع تغيرت، ولا أحد يعرف شيئا عن القيادة القادمة في مصر. لذلك يجب أن نفتح الأعين جيدا حتى لا نفاجأ بشيء في المستقبل. 4 لم يعد سرا أن الولايات المتحدة وإسرائيل ومعهما بعض الدول العربية «الشقيقة» لا يريدون لمصر أن تخرج من عباءة نظام مبارك، في السياسة الخارجية على الحد الأدنى. في حين أن إسقاط ذلك النظام كان ولا يزال المطلب الأول للثورة. وإذا أضفت إلى ذلك أن مصر تواجه تحديات داخلية أخرى تتمثل في ضبط الأمن وتدهور الوضع الاقتصادي، وتحقيق العدالة الاجتماعية. فإن ذلك يدلل على مدى السخف والعبث الذي ورطنا فيه الذين يملأون الفضاء المصري بالضجيج واللغط والخناق حول أزياء النساء ومايوهات البحر والملاهي الليلية وغير ذلك من الأمور التي لا علاقة لها سواء بتحديات البلد أو هموم الناس، الأمر الذي يمثل شهادة فاضحة لمدى الخلل الذي أصاب ترتيب الأولويات. الأخطر مما سبق هو ذلك الاستقطاب القبيح الذي مزق الجماعة الوطنية إلى معسكرين متحاربين بين إسلاميين في جانب وعلمانيين وأقباط في جانب آخر، الامر الذي حول التنافس بينهما إلى صراع هويات وليس صراعا بين سياسات. وهي المعركة البائسة التي اندفع فيها الغلاة والمهووسون الذين ظلوا عبئا على الثورة وعلى الوطن. لا أستطيع أن أحمل المجلس العسكري المسؤولية عن ذلك التشتت أو التلوث الذي أصاب الحياة السياسية في مصر، وإن كنت أزعم أن من شأن ذلك تسويغ إطالة مدة بقاء المجلس العسكري في السلطة. ولا أستطيع أن اتهم «الفلول» بأنها وراء ذلك العبث، بعدما تبين أن المجتمع عزلهم في الانتخابات وأننا اكتشفنا أنهم لم يكونوا سوى «خيال مآتة» أو نمور من ورق. لكنني لا أستطيع أن أعفى من المسئولية طرفين هما النخب السياسية التي أسهمت بشكل أساسي في خلط الأوراق، والأبواق الإعلامية التي عممت التلوث وأسهمت في إفساد الإدراك العام. وقد بذل هؤلاء وهؤلاء طيلة الأشهر العشرة الماضية جهدا مشهودا يستحقون الشكر عليه من القابعين في سجن طرة، لأنهم قدموا للثورة المضادة خدمات جليلة لا تقدر بثمن.