العودة إلى تونس

حجم الخط
دعا الرئيس التونسي الدكتور المنصف المرزوقي يهود تونس للعودة إلى تونس التي هي بلدهم ومسقط رؤوسهم، منذ انتقل أسلافهم مع العرب المطرودين من إسبانيا بعد سقوط دولة بني الأحمر، إلى بلدان المغرب العربي، وعاشوا هناك معززين مكرمين بعيدا عن عنصرية محاكم التفتيش. يهود تونس والمغرب، وكثيرون غيرهم ضللتهم الصهيونية، وقادتهم لترك أوطانهم التي ولدوا وعاشوا وترعرعوا فيها، ليسهموا في احتلال فلسطين وطرد أهلها، وممارسة العنصرية على من بقي منهم بعد حرب 48، واحتلال الضفة الفلسطينية في حزيران 67. دعوة يهود تونس للعودة جاءت بعد إسقاط نظام بن علي، وبدء الحقبة الديمقراطية الواعدة، مع أن بن علي لا ذنب له في رحيل أولئك اليهود، ولا حتى مؤسس الجمهورية الرئيس بورقيبة، فهم رحلوا بمحض اختيارهم، ولم يطردهم أحد، ولم يعرف أنهم تعرضوا للاضطهاد والعنف في تونس يوما. أذكّر بأنني اخترت السفينة التي توجهت إلى تونس صبيحة 22 آب 1982، بعد معركة بيروت، حبا بتونس التي كنت زرتها عام 73 مشاركا في مؤتمر الاتحاد العام للكتاب العرب، وعام 77مشاركا في المؤتمر الثاني للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وأثناء ذلك نشأت صداقات بيني وبين كتاب وشعراء توانسة، ومحبة مع تونس البلد والناس، ولأنني لم أختر تونس للراحة والسياحة فقد غادرتها صبيحة اليوم التالي متجها إلى دمشق حيث تقيم أسرتي في مخيم اليرموك، ولأنني، وهذا هو الأمر الأكثر أهمية، توقعت استئناف معركتنا والقوى الوطنية اللبنانية مع جيش الاحتلال الصهيوني وحلفائه الانعزاليين. في العام 88 عدت وأقمت مع أسرتي في تونس، وهناك مكثنا حتى ( أوسلو)، واتخاذ قرار العودة إلى غزة وأريحا عام 94، فاخترت أن أعود إلى الأردن، لأنني هكذا أكون على مقربة من فلسطين، وهو ما سييسر لي إمكانية متابعة ما سيحدث بعد خيار( أوسلو) الذي عارضته، وانتقدته، وكتبت محذرا منه في الصحافة التونسية، وفي مقابلة إذاعية أجراها معي الصديق الإعلامي محمد كريشان لإذاعة ( هولندة) الدولية.(لم يكن محمد نجما متألقا كما هو اليوم..كم آمل أن تكون المقابلة المسجلة ما زالت بحوزته). لما اتخذ قرار الرحيل من تونس، انهمكت الأسر الفلسطينية في ترتيب أمورها: تسليم البيوت، تسديد الديون، تدبير تذاكر السفر.. حالة من التوتر تفاقمها الأسئلة عن الوجهة، عن تعليم الأبناء والبنات، عن تدبير سبل العيش، خاصة وكثير من هذه الأسر لم تمنح حق ( العودة) مع منحهم (أوسلو) هذا الامتياز، فاضطرت للبدء في البحث عن مناف جديدة في الدول الأوربية تحديدا، ذلك أن( دول ) العرب لا ترحب بالفلسطيني، وتناصبه الشك، خشية أن ينقل إليها ما يزعزع أمنها الداخلي. الصديق العزيز الإعلامي والناشط السياسي رشيد خشانة استضافني وأسرتي في شقة له في (حلق الواد) قرب البحر، بعد أن سلمت الشقة التي عشت فيها مع أسرتي في المنار 2. أتذكرون أغنية فريد الأطرش ( بساط الريح) التي يتغنى فيها بغزلان تونس البيضا في حلق الواد؟! بعد أيام اصطحبنا الأسرة إلى مطار قرطاج للتوجه إلى عمان، ولأبقى أنا لتصفية بعض الأمور، وعند بدء تحرك السيارة دهشت لأن جارة أسرة بوعزيزة التي نشأت بيننا وبينها علاقة طيبة، والتوانسة محبون لفلسطين وشعبها، السيدة سارة التي كانت تعيش وحدها، تحمل دلو ماء، وتأخذ في ملء طاسة ورشق مؤخرة السيارة بنشاط وهمة رغم تقدمها في العمر، وهشاشة وضعها الصحي كما كانت تبدو. استفسرت من جارنا الطيب الذي وقف مع أسرته يودعون الأسرة الفلسطينية وفي عيونهم دموع وحزن، فأجابني: _ سارة هوديه.. وهي ترش الماء كي تعودوا إلى تونس! فهمت الهدف الخبيث لتلك السيدة: هي تريدنا أن نعود إلى تونس، لا أن (نعود) إلى فلسطين. تريدنا أن نبقى غرباء مشردين، لأن عودتنا تتهدد الكيان الصهيوني! بعد أيام كانت السيدة سارة قد أعدت نفسها للسفر إلى باريس- هذا ما قالته.. إلى باريس فقط؟! - حيث ابنها وابنتها سبقاها إليها قبل سنوات. عندما وقفت السيارة أمام بيتها، وغابت في جوفها، أحضرت بسرعة سطل ماء أعددته مسبقا، وجعلت أرش مؤخرة السيارة بمبالغة، وكان الماء يتطاير ونحن نغرق في الضحك أنا وصديقي ياسين معتوق، والسيد بوعزيزة وأفراد أسرته. فتحت سارة باب السيارة وهي تصرخ: _ علاش ترش الما..لا ترش ما ( ماء) على السيارة. بهدوء قلت لها: _ حتى تعودي لتونسي يا سيدة سارة. أليست تونس بلدك، أم تراك ذاهبة لاحتلال بيت جدتي سارة، أم أمي، في فلسطين؟! منذ مغادرتي تونس في العام 94 عدت عدة مرات لزيارة تونس، وبدعوات من جهات تونسية، منها الاتحاد التونسي للشغل الذي استضافني في مدينة صفاقس، وأيضا للمشاركة في مؤتمر الرواية العربية في مدينة قابس، وهو مهرجان يشرف عليه الروائي والناقد التونسي المعروف الدكتور محمد الباردي..فالفلسطيني يعود إلى أي بلد عربي عاش فيه زائرا، لا مقيما..فالعودة الحقيقية لا تكون إلاّ لفلسطين. أتوقع أن تكون دعوة الدكتور المرزوقي يهود تونس للعودة إلى بلدهم مشروطة بالتخلي عن الجنسية (الإسرائيلية)، إذ لا يجوز أن يتيح أي بلد عربي ليهوده أن يحملوا جنسية تستلب من الفلسطيني وطنه، وتتهدد بلاد العرب جميعها، بما في ذلك تونس الخضراء التي مزقت طائرات العدو أجساد العشرات من أبنائها مع أخوتهم الفلسطينيين في مذبحة حمّام الشط. كم أتمنى لو أن كل بلد عربي يُسقط نظامه الاستبداد، أن يدعو اليهود للعودة، بشرط التخلي عن جنسية الكيان الصهيوني. الديمقراطية في بلاد العرب لا تعني التخلي عن فلسطين القضية والشعب، وفك الحصار عن الكيان الصهيوني والصهاينة. ثوّار تونس هم أوّل من رفع شعار رفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولذا فهم لن يسمحوا لمن يحتلون بيوت أخوتهم الفلسطينيين بالعودة إلى تونس ليستمتعوا بمواطنة تخلوا عنها.. إلاّ إذا تخلّوا عن جنسية الكيان الصهيوني.