لكي لا نهزم أنفسنا

حجم الخط

بعد واحد وخمسون يوما من العدوان على شعبنا، والتدمير الوحشي، الذي طال كل شيء، وارتكاب مجازر بحق العائلات والأطفال، والنزوح الجماعي، بحثا عن أماكن أكثر أمنا، في محاولة لحماية الناس لأنفسها وأطفالها وأسرها، وهروبا من ألاف الأطنان المتفجرة، المنهالة على رؤوسهم، تاركين خلفهم كل شيء، تاركين بيوتهم، وأمتعتهم، وحتى أوراقهم الثبوتية، ذاهبون نحو المجهول .. حتى تحولت بيوتنا إلى مستضيفة للغير، أو مضافة لدى الغير .. ورغم ذلك، فقد لاحقهم القتل والتدمير والتخريب..

خلال تلك الأيام، الطويلة، إحتمل الناس مالا يطاق، وما لا تحتمله جبال.. كان الناس قد عاشوا لسنوات تحت الحصار، وتعرضوا لعدواني 2008 و2014م. ورغم ذلك، تحملوا.. قيل لهم لا تتركوا بيوتكم، فتمسمروا فيها، حتى أصبحت تهمة كسر دعوات الإذاعات، اقل قسوة من احتمال ما يسقط فوق رؤوسهم، ورؤوس أطفالهم .. وقيل لهم أن النصر اقرب إليكم من قذائفهم.. وقيل لهم سنبني كل شيء هدم.. ولم يحاسبوا أحدا عما قال..

قطعت الكهرباء على الناس، وتحملوا، كما قطعت المياه، واقتسم البسطاء بيوتهم وفراشهم وطعامهم مع النازحين إليهم، دون شكوى، وتحملوا .. عاش الناس في المدارس، وقد تأخرت "الانروا" في تقديم الخدمات لهم، وهي المسئولة عنهم .. عاشوا في ظروف تفتقر لشروط الحد الأدنى لحياة أدمية، خصوصا في المجال الصحي، ما أدى لتفشى أمراض، كانت حتى ذلك الحين، جزء من الماضي..وأصبحوا عنوان للتصوير ..

بعد الإعلان عن الهدنة الأخيرة، وشعور الناس وكأن حياة جديدة كتبت لكل من سلم، وبدء العودة تدريجيا لحياتهم الاعتيادية، ووصول المساعدات الإغاثية بشكل اكبر وأوسع، وتحولها لمركز اهتمام الناس والمؤسسات والحكومة، وتوقع استمرار هذه الحالة وتوسعها لعام قادم، على الأقل .. فلازالت هذه المساعدات، والتي تبدو في مظهرها منظمة، وتقدم لمستحقيها، ووفق كشوف مدققة من جهات رسمية .. إلا أن واقع تلك المساعدات يأخذ طبيعة عشوائية، ويعكس هدر للوقت والجهد والمال. والأخطر، تحول المعونات من مصدر لتعزيز صمود الناس، ومد يد العون لهم، والوقوف إلى جانبهم في محنتهم، أن تتحول إلى بوابة هزيمتنا، والحط من كرامتنا، وتحويلنا لمتسولين.. والسبب يرجع لعدم وجود جهة مركزية مسئولة واحدة، تجمع كافة الأطراف المعنية ( حكومة ووكالة وفصائل ومؤسسات) وتكون مهمتها: أولا، تحديد أولويات شعبنا من الاحتياجات في كل لحظة محددة. فمثلا، عبوة الماء كانت حاجة ملحة في لحظة ما، وتحولت لعبئ في لحظات أخرى..وثانيا، مطلوب منها تحديد الجهات التي لا يجوز قبول المساعدات منها، رغم حجم الحاجة، ومثلها المساعدات المقدمة من جهات بررت العدوان، ودعمته مباشرة، وتحاول تبييض صورتها القبيحة.. إن شعبنا سيكون أكثر ارتياحا في ظل تجدد قرار وطني صارم رافض لمعونات ترى في صموده وتضحياته وشهدائه عملا إرهابيا، وثمة سابقة مشرفة لذلك. وإلا، ما الفرق بين مساعداتها والمساعدات "الإسرائيلية". وثالثا، والاهم، مطلوب من تلك الجهة وضع آليات (بالاستعانة بمختصين وميدانيين ) تضمن وصول تلك المساعدات لمستحقيها، ضمن سياسات واضحة، ومحددة، ومعلنة، وبما يحفظ كرامة الناس، ويمنع أي شكل- مهما كانت تبريراته- لامتهان كرامتهم، بما في ذلك ربط التوثيق بالتصوير، وهذا (الاختراع) يجب العمل على وقفه فورا – تحديدا من قبل أهلنا في الضفة - فهناك ألاف الأشكال الممكنة للتأكد من حصول المستحقين لحقوقهم، دون إهانتهم، ولا أظن أن أي منا- وكلنا معرض للموقف- مهما كانت حاجته، والضرر الذي لحق به، وأحقيته في المساعدة، يقبل باشتراط تصويره لحصوله على ابسط حقوقه.هذا، إلى جانب توجه الناس للتسجيل، سواء للأضرار أو المساعدات من جهة، أو لاستلام مستحقاتهم، من جهة ثانية، وما يسببه ذلك، في بعض مظاهره، من امتهان لكرامتهم.

ويمكن معالجة ذلك، بتفرع لجان عن اللجنة الأم، في كل حي صغير، وتكون مهمتها الوصول للناس، في بيوتهم، وتولي عملية التسجيل، والحصر. وأيضا، إيصال المساعدات والمعونات للبيوت، وليس العكس. أما أن يضطر المواطن للتجول بين المؤسسات للتسجيل فيها، حيث لا يعرف مسبقا، أي منها التي يمكن أن تساعده، وان يضطر للوقوف بطوابير لتسلم تلك المساعدات، وما يعكسه هذا الشكل، في بعض مظاهره، من إهانة .

إن وجود هذه اللجنة، ذات الطابع الوطني، والمهني، يحفظ واجب وحق الجميع في المشاركة بتقديم المساعدة للناس، أو إيصالها لهم، ويدخل الطمأنينة لأنفسهم، بأنها ستصل لهم، وفق معايير عادلة، تأخذ بالاعتبار كافة الظروف والاعتبارات (نوع وحجم الضرر، دخل الأسرة وعدد أفرادها، طبيعة الاحتياجات والمساعدات السابقة) دون الحاجة لبذل جهد منهم، وهذا. اقل ما يمكن تقديمه لشعبنا.

إن أكثر ما اسعد شعبنا خلال العدوان، رغم عمق جراحه، تلك الصورة الوحدوية لممثليه في القاهرة، والموقف الموحد في المفاوضات. ولذلك، توحد شعبنا خلف الموقف، بتفاصيله، وأينما ذهب..إن هذه اللجنة، الموحدة، تعتبر تكملة لتلك الصورة، وما يعكسه ذلك، من أهمية مستقبلية، إلى جانب فوائده الفنية، والعملية، وهي ضرورية، لاحقا، عند البدء بالإعمار، وتكون مقدمة لتحقيق وحدة حقيقية، مستمرة، ولا تخضع لمصالح أنية لأطرافها، وتضمن أيضا، الحديث عن انتصار حقيقي، وتمنع ما قد نكون ذاهبون إليه، باتجاه الحط من كرامة الناس، وبما يجعلنا بحاجة لسنوات طويلة للتعافي من هذه الأثار المدمرة ..

إن لجنة بهذا التمثيل، يمكن أن تفرض نفسها، ليس فقط على الممولين للمساعدات ومؤسساتهم، وإنما، أيضا، على العالم بأسره. ذلك، في مواجهة أية أصوات يمكن أن تحاجج بشروط الممولين، وغيرهم. والذين، لا فضل لهم على شعبنا، لأنهم، في الواقع إنما يدافعون عن إنسانيتهم، وقيمهم. وكما نعلم، فكل وسيلة دفاع لها ثمن. هذا، إذا ما افترضنا - بكثير من السذاجة- بأنها، في جزء كبير منها، مساعدات بدوافع إنسانية، ولوجه الله تعالى.